بقلم خالد صالح
لم يكن إتفاق “الطائف” مجرّد عقدٍ اجتماعي توافق عليه اللبنانيون لوضع حدٍ نهائي للحرب الأهلية، بل أراد المشرعون من خلال هذا الإتفاق وضع الآلية المناسبة التي تُمهّد الطريق وتعبّده نحو الانتقال من الدولة المبنية على نظام طائفي تحاصصي إلى نظام مدني قائم على أسس الكفاءة، مع مراعاة دقيقة لخصوصيات لبنان وفرادة تركيبته .لكن الممارسة الفعلية لهذا الإتفاق الذي تحوّل “دستورًا” كانت مغايرة، وتمّ تقييده بـ “أعراف” و “بدع” ارتقت إلى درجة الهرطقات، ولعلّ أكثر ما جعل تطبيق الدستور عصيًا بدعة “الميثاقية” التي صارت “غب الطلب”، يستخدمونها وفق الاحتياجات لها ويتجاهلونها عندما يفرغون من احتياجاتهم، وقد أدّت هذه الممارسة إلى تعطيل البلاد لفترات طويلة خصوصًا فيما يتعلّق بالاستحقاقات الدستورية .تسبّب نظام الوصاية السورية في تقويض أساسات “الطائف” وجعل منه نظامًا هجينًا، فكانت بدعة “الديموقراطية التوافقية” أولى الهرطقات التي حاول نظام الوصاية تعميمها، لأنه أطاح بنظام حكم “الأكثرية” ومعارضة “الأقلية” في البرلمان، وجعل الحكومات تتشكّل من تركيبة المجلس النيابي الذي افتقد قدرته على المحاسبة نظرًا لأنها من صُلبه ومن رحم تكتلاته ..
لكن أخطر ما عايشناه من ممارسات كانت بدعة “الميثاقية” بوجهها الحالي، فقد عبثت هذه الممارسة بالمضمون الفعلي للميثاقية، وحرّفتها عن سياقها الحقيقي، وصارت “حجة” نجاهر بها حينًا ونتجاهلها حينًا آخر، بحجة الميثاقية الشيعية “نقولب” رئاسة المجلس النيابي، وفي الحجة عينها “مارونيًا” نعطّل انتخابات رئاسة الجمهورية، وعندما تصل الأمور إلى رئاسة الحكومة نضعها على الرف لانتفاء الحاجة إليها، ولا مشكلة بوصول رئيس للحكومة لا ميثاقية “سنية” له، وتصير مقيدة بالاستشارات الملزمة ونتائجها ..
من هنا لا يجوز أن تُصبح “الميثاقية” صيفًا وشتاءً تحت سقف واحد، فليس هناك ميثاقية بـ “زيت” و أخرى بـ “سمنة”، فالواقع أن رئيس الحكومة يمثل الطائفة السنية كاملة بموجب النظام والدستور، ومن الطبيعي أن يكون التوازن قائمًا في معادلة الرؤساء، أليس من أحد الأسباب التي يواجه بها “سليمان فرنجية” بالرفض أن تمثيله للشارع المسيحي ضعيف ومحدود ؟، ألم يتمّ تعطيل البلاد من أيار الـ 2014 إلى تشرين الأول 2016 لأجل ميشال عون بحجة أنه الميثاقي الذي يمثل الأكثرية المسيحية ؟، فهل كان حسان دياب ميثاقيًا ؟
اليوم تخرج علينا بعض الأصوات من هنا وهناك بأن لديها مرشح لرئاسة الحكومة في العهد الجديد، رغم أن الحديث عن هذا الأمر لايزال مبكرًا، ومن المفارقات اللبنانية أننا لم نضع اليد حتى الآن على أصل المشكلة التي أطاحت بتطبيق الطائف في بعديه الداخلي والخارجي، ومازلنا نتعامل مع ميثاق الوفاق الوطني بمنطق موازين القوى السياسية ومتغيراتها، بعيدًا عن الهم الوطني الحقيقي الذي يفرض الأولويات أن يُطبق الطائف ” جملة وتفصيلا”، لأن التلاعب به وفق أهواء البعض أو قراءات البعض الآخر قد يضعنا أمام معادلات لا تحمد عقباها .. لهذا لا خيار أمامنا إلا العودة الى الطائف والاحتكام اليه وتطبيقه والالتزام في جميع القضايا الوطنية، وليس هناك من مدخل الى ذلك إلا بالعودة الى مشروع الدولة، فيختلف اللبنانيون في الدولة لا عليها، وهذا ما حواه الطائف باقرار المؤسسات والاصلاحات التي من ضمنها تجري اللعبة الديموقراطية ومن خلالها تسير جدلية الاكثرية والاقلية السياسيتين، لأن أي أسلوب آخر لا يلتزم المعايير الدستورية والقواعد التي قام عليها العقد الوطني سيضعنا على حافة الهاوية .
إن شطحات المنابر والشاشات و “الهوبرات” الخطابية تضر بـ “لبنان” ووحدته، وبتنا أمام مخاطر أن كل طائفة تبحث عن دفاعاتها واستراتيجياتها لتغيير الأوضاع القائمة وفقًا لهذه أو تلك من الحسابات الإقليمية والدولية، ولا بد من استدراك الأمر بخطة وطنية تلغي الهواجس المتبادلة لدى الأطراف، وتعيد الحرارة الدستورية للخطاب السياسي، خصوصًا أننا نمرّ بمرحلة عصيبة سيتطلب بعد الخروج منها العودة إلى الهدوء والعقلانية وتغليب لغة الحوار على أي لغة أخرى لإعادة الانتظام للمؤسسات تحت سقف الدستور حتى وإن كانت بعض الأمور لا تتماشى مع الميثاقية أو على ألأدق “ميثاقية الطوائف”.. فإذا ما عدنا للطائف نصًا وروحًا وجدناه قد شُوّه واجتزئ ومسخ في التطبيق، فلم تنشأ المؤسسات الدستورية كما يفترض وأفرغت من مضمونها اذا وجدت، والمسلمات الوطنية جرى خرقها وحصل التمادي في هذا الخرق على جميع المستويات، وليس أدعى من هذه الظروف أن ينشأ مجلس حكماء أو لجنة تحكيم تعيد الاعتبار للطائف بما هو ميثاق وطني وليس شبكة عنكبوت تأسر الضعفاء ويمزقها الأقوياء، وليس أقل من أن تتبنى القوى السياسية مجتمعة خطة منهجية لتفسير الطائف ووضع جدول زمني لتطبيقه من خلال حوار هادئ لا يستهدف تعبئة الجمهور وحشد العصبيات..
