بقلم خالد صالح
يقول الكاتب الكندي “آلان دونو” في كتابه الشهير “نظام التفاهة” :
“إن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام، لقد تغيّر الزمن، زمن الحق والقيم والمبادىء، ذلك أن التافهين أمسكوا بكلّ شيء، بكلّ تفاهتهم وفسادهم؛ فعند غياب القيم والمبادئ الراقية، يطفو الفساد المبرمج ذوقًا وأخلاقًا وقيمًا، إنه زمن الصعاليك الهابط”.
دخلت وصديقي أحد المطاعم الشعبية الذي وضع إعلانًا ضخمًا عن وجبة “فول باللحمة” وطلبنا وجبة لشخصين، أكلنا حتى “مسحنا” صحون الفول .. لا ذقنا ولا حتى شفنا قطعة لحمة .. ناديت على صاحب المطعم، فحضر إلينا رجل كبير في السن وسألته : وين اللحم اللي بالفول ياحج ؟
قال : الله يحفظكم .. جبنة أبو الولد، شفتوا فيها ولد ؟ .. قلنا لا
قال جبنة البقرة الضاحكة … شفتوا فيها بقرة ؟ .. قلنا لا
الموس أبو التمساح .. شفتوا فيه تمساح ؟ .. قلنا لا
قال دولة القانون .. شفتوا فيها قانون ؟ .. قلنا لا
شعار محاربة الفساد .. شفتوا فيه فساد ؟ .. قلنا لا
قال: وزارة الاقتصاد شفتو فيها تنمية اقتصادية ؟ قلنا لا
شعار وزارة الطاقة وانتهاء أزمة الكهرباء، عم تعطيكن كهربا ؟ .. قلنا لا
قال: شعار القضاء على الطائفية .. انتهت الطائفية ؟ .. قلنا لا
شعار القضاء على المحاصصة .. انتهت المحاصصة ؟ .. قلنا لا
قال: شعار حصر السلاح بيد الدولة .. صار السلاح بيد الدولة ؟ .. قلنا لا
شعار الحفاظ على سيادة لبنان .. تحققت السيادة ؟ .. قلنا لا
قال: اللي رافعين شعار الإصلاح والتغيير شفتو أي إصلاح ؟ .. قلنا لا
قال: إذن كلوا وانتو ساكتين … وما تتشاطروا عليّ !!
فعلًا أفحمنا .. ودفعنا الحساب وضهرنا مثل الشاطرين ..
شيطان وسط الملائكة
ليس غريبًا أن يقع “رياض سلامة” في جريرة أفعاله في السنوات الأخيرة، وهو إن نجح في بداياته مع حاكمية مصرف لبنان واستطاع بـ “هندساته” أن يؤمّن استقرارًا نقديًا ساهم بدفع عجلة الاقتصاد اللبناني إلى مراحل من النمو الحقيقي، فإنه ومنذ العام 2019 شرع باتخاذ اجراءات أدّت إلى “ضعضعة” هذا الاستقرار وتحوّل فيما بعد إلى أزمة عميقة وحادة ليس من السهل الخروج منها في السنوات المقبلة .
لكن اللافت في أمر “رياض سلامة” ليس قرار مدعي عام التمييز جمال الحجار بتوقيفه على ذمّة التحقيق، بل في الطبقة السياسية الممسكة بزمام الأمور بالطول والعرض، والتي سارعت إلى تبنّي التصويب على سلامة، وكل جهة تعتبر هذا الانجاز “مطوبًا” لها، وأنها السبّاقة في التصويب على الحاكم وعلى “الفساد” الذي مارسه طوال ثلاثة عقود تقريبًا .
حسنًا .. أصبح رياض سلامة خلف القضبان، وسواء أصدر قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي قرارًا وجاهيًا بتوقيفه أو غير ذلك، ثمّة أسئلة كثيرة لا تتعلّق بممارسات “سلامة” أو تدابيره أو محاولاته التحايل على القوانين، بل السؤال المركزي الأهم، هل بهذا التوقيف وضعنا اليد على “الفساد” واجتثثناه من جذوره، على اعتباره “الشيطان” الوحيد الموجود بين حلقة من “الملائكة” ؟.
“كتروا السلّاخين”
الجميع من دون استثناء سارع إلى تجيير هذا الإنجاز له ولفريقه السياسي، واعجبي !! الكل يدّعي العفة ويؤكد أن هذا الأمر سبق له وصوّب عليه منذ سنوات، إذن من المسؤول عن بقاء “الحاكم” في منصبه طوال سنوات الأزمة ؟، ولماذا تركوه “يسرح ويمرح” بمستقبلنا ومستقبل اقتصادنا على هذه الشاكلة ؟، في الحقيقة ينطبق هنا المثل الشعبي “وقعت البقرة كتروا السلّاخين” ..
ليس دفاعًا عن “رياض سلامة”، فقد جنت على نفسها براقش، لكن !!.. كم من براقش بيننا لم يُكشف الحجاب بعدُ عنها ؟، وهل سيكون المصير الذي آل إليه الحاكم بانتظار “أوبة الفساد” التي ضربت شرايين البلد من أقصاه إلى أقصاه ومن دون وجود سقف سياسي فوق رأس أحد ؟، فإن كان سلامة فاسدًا ومتآمرًا على اقتصادنا “أوقية”، فماذا نحن فاعلون أمام الفساد المستشري في وزارة الطاقة أو في التربية أو في الاقتصاد أو في البيئة والصناعة وهو بـ “الأرطال” .. والقائمة تطول ..
ليس مهمًا تفاصيل التوقيف وأسبابه وتداعياته سواءً إيجابية أو سلبية، المهم هو أن يكون “الحجر الأول” في لعبة “الدومينو” القائمة على أرتال من الفاسدين الذين شكّلوا منذ بداية الأزمة في الـ 2019 حصانة سياسية حول “سلامة” الذي نال “مناعة” من أي إجراء يُمهّد الطريق نحو “كشف المستور”، والأيام المقبلة ستكشف إذا ما كان التوقيف فقط على خلفية تبييض الأموال أم أن الدعاوى المرفوعة ضده في أوروبا هي التي عجّلت بهذا الأمر .
كلهم مسؤول ولا استثني أحدًا، فمن يهاجم رياض سلامة اليوم، هو نفسه من سارع للتمديد له، وهو نفسه من مدحه وأجزل، وهو نفسه من طلب منه تمويل صفقاته، وهو نفسه من أراد المنفعة القصوى من تعاميمه، رياض سلامة “حلقة” في سلسلة لن تنتهي في “مصرف لبنان” فحسب، فالدولة العميقة المتلغلغة في مفاصل وزاراتنا وإداراتنا وقضائنا تحتاج لقرارات جريئة كالتي إتخذها مدعي عام التمييز، من دون تمييز بين تيار سياسي وآخر وبين طائفة وأخرى، فالوجع الذي يعاني منه اللبناني يقاسيه على مختلف أطيافه وانتماءاته ومناطقه .