مع نهاية تشرين الأول الماضي أكمل الشغور في سدة رئاسة الجمهورية في لبنان عامه الثاني بعد محاولات وجهود حثيثة داخلية وخارجية باءت جميعها بالفشل رغم ما خلفه هذا الفراغ من تداعيات سياسية واقتصادية وأمنية لا يستهان بها.
وكلما طال أمد الفراغ في الرئاسة الأولى تراجعت إمكانات الدولة اللبنانية وقدرتها على ضبط الأمور وانضباط الإدارة العامة في البلاد واستمرارية الإنتاج في ظل حرب مفتوحة تستنزف طاقتها من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
ويتم اختيار من يشغل منصب الرئيس من خلال تصويت في البرلمان اللبناني الذي يتألف من 128 مقعدا وليس لدى أي تحالف سياسي بمفرده ما يكفي من المقاعد لفرض اختياره، مما يعني ضرورة التوصل إلى تفاهم بين الكتل المتنافسة من أجل انتخاب مرشح.
وهناك فريقان في لبنان يتباين موقف كل منهما تجاه ملف الرئاسة الأول يتمثل بحزب (القوات اللبنانية) وبعض المستقلين الذين يريدون اتباع الخطوات الدستورية لانتخاب الرئيس مؤيدين ترشيح ميشال معوض وبعد إخفاقه ايدوا ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور.
ويتمثل الفريق الثاني في الثنائي المتحالف حركة أمل وحزب الله اللذين استقرا على ترشيح سليمان فرنجية ولا يزالان يتمسكان بذلك، في حين أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري مبادرة حوارية تمهيدا للانتخاب، الأمر الذي رفضه الفريق الآخر، معتبرا ان الدستور اللبناني لا ينص على حوار يسبق الانتخاب.
إلا أن الضغط الخارجي والمساعي الدولية من خلال (اللجنة الخماسية) والزيارات المكوكية التي يقوم بها مسؤول ملف لبنان لدى الرئاسة الفرنسية جان ايف لودريان من حين إلى آخر إلى بيروت لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء اللبنانيين باءت جميعها بالفشل.
وفرنسا كانت ومازالت من بين الدول التي سعت لانتخاب رئيس أولا من خلال السعي لتسويق سليمان فرنجية، لكن الأمر لم يفلح ومن ثم طرحت إمكان اختيار مرشح ثالث يرضى عنه كل الأطراف.
والولايات المتحدة بدورها لم تكن بعيدة عن هذا الملف فقد دعت لانتخاب رئيس يحظى بموافقة الجميع ويعمل على انتشال البلد من أزمته المالية والاقتصادية عبر التوافق مع صندوق النقد الدولي لكنها تعطي لوقف الحرب وإطلاق النار على لبنان أولوية كبيرة.
واشنطن كذلك لا تمانع ضمنا في انتخاب قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون رئيسا للجمهورية لكنها لم ترد التدخل في الأسماء علنا، الأمر الذي صعبه رئيس مجلس النواب اللبناني بقوله آنذاك إن الأمر «يلزمه تعديل دستوري والتعديل يلزمه أصوات 86 نائبا في البرلمان» ما يبدو صعب المنال في ضوء الظروف الحالية للبلاد.
ومما لا شك فيه ان انطلاق الحرب في قطاع غزة في السابع من تشرين الأول 2023 والربط بينها وبين جبهة جنوب لبنان قد ألقى بظلاله على تراجع حظوظ مساعي انتخاب رئيس.
الفرقاء في الداخل يقولون بعدم الربط بين إنجاز الرئاسة والحرب الدائرة فاستفادت فرنسا من هذه الفكرة لإعادة إيفاد مبعوثها الرئاسي جان ايف لودريان مجددا إلى بيروت للإبقاء على اهتمامها بلبنان قائما وللاستمرار في المساعي الرئاسية.
ولكن بعيد منتصف أيلول الماضي خرجت المواجهات العسكرية في الجنوب اللبناني عما يعرف بـ (قواعد الاشتباك) وانفتحت حرب فعلية ومن دون ضوابط من قبل الاحتلال الإسرائيلي على مختلف المناطق اللبنانية لتغيير الوضع على شمالها انطلاقا من جنوب لبنان.
وفعلت الحرب فعلتها في التأثير على طرف من الفرقاء اللبنانيين له حضوره وسطوته في المشهد السياسي، لاسيما في ملف الرئاسة إلا ان ما أفرزته الحرب حتى الآن حدا بأطراف لبنانية للمسارعة إلى إعادة الدفع بالملف والاستفادة من الوضع القائم كعنصر ضاغط على الجميع للوصول إلى الانتخاب.
وبرزت تساؤلات هنا بشأن حدوث تبدلات في التوازنات الداخلية نتيجة الحرب الدائرة وانعكاس ذلك على ملف الرئاسة تسريعا أو بمزيد من التأخير، بالإضافة إلى المعادلات الجديدة التي ستفرض نفسها على موقع الرئاسة في لبنان.
النائب في مجلس النواب اللبناني عن حزب (القوات اللبنانية) بيار بوعاصي يرى انه من الصعوبة بمكان حتى الآن ان يتكهن أحد بما ستؤول إليه الأمور خاصة الملف الرئاسي في ظل الحرب الدائرة، معتبرا ان مشكلة موضوع الرئاسة وضرورة ملء الشغور فيها «بدأت قبل الحرب وليس أثناءها».
وأضاف بوعاصي ان سبل حل مشكلة الرئاسة في لبنان تكمن في ضرورة احترام الدستور و(اتفاق الطائف)، مشددا على ضرورة تفعيل المؤسسات الدستورية والعمل وفق مقتضيات «وثيقة الوفاق الوطني» (الدستور اللبناني).
وقال انه لا يعول كثيرا على انعكاسات الحرب الدائرة ونتائجها على الملف الرئاسي، معتبرا ان هذه الحرب بالنسبة للبنان «وجودية ذات أهداف أمنية وليست سياسية ولا علاقة لها بموضوع الرئاسة».
وأوضح ان ملف الرئاسة الأولى في لبنان تتقاطع به «مصالح دولية وإقليمية وكل طرف يدفع باتجاه ما يراه مناسبا له»، مشددا «لكن لو عاد الجميع إلى مبدأ الدولة فسيصلون إلى نتيجة في الملف الرئاسي».
أما النائب عن كتلة «التنمية والتحرير» فادي علامة فيعتبر أن الدولة اللبنانية متمثلة حاليا برئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي «اللذين يعبران عن الموقف اللبناني»، مشيرا إلى أن الأولوية حاليا لتنفيذ القرار 1701 بالكامل ودعم دور الجيش اللبناني في هذا الشأن.
وأكد علامة أن انتخاب رئيس جمهورية في لبنان يجب أن يحظى بدعم 86 صوتا في البرلمان، إضافة إلى تمتعه بحضور داخلي وخارجي وله برنامج إنقاذ للبلد على كافة الصعد الأمر الذي يستدعي تهيئة الأجواء له «وهذا غير متوافر حتى الآن».
وأوضح أن تصويت 86 نائبا في التركيبة الحالية للمجلس النيابي يعكس مدى حصول المرشح الرئاسي على ثقة جميع أطياف الشعب اللبناني، مشيرا إلى مراعاة الرئيس الفائز تمثيل كل الكتل البرلمانية في حكومته المستقبلية.
أما الكاتب السياسي جوني منير فيرى أن الانتخابات الرئاسية هذه المرة ستكون «ترجمة فعلية للمناخ الجديد» الذي يخيم على المشهد السياسي اللبناني في ظل حرب قوات الاحتلال المستمرة على لبنان «وما أفرزته من معادلة توازنات جديدة كنتيجة لهذه الحرب».
وقال منير إن حرب تموز 2006 وما نتج عنها كانت «لصالح قوى إقليمية وحلفائها في الداخل اللبناني» والتي على ضوئها انتخب ميشال عون رئيسا للجمهورية، مستدركا «لكن اليوم تغيرت هذه المعادلة وستكون ترجمتها وفق معطيات ما يفرضه الأمر الواقع».
وأوضح أن من أكبر التحديات التي ستواجه رئيس الجمهورية الجديد هو تفكيك القدرة العسكرية ونزع السلاح الذي لا ينضوي تحت سلطة الدولة اللبنانية مهددا الأمن والسلم المجتمعي الأمر الذي سيلقي بظلاله على التفاهمات السياسية على ملف الرئاسة في المستقبل.
وشدد على أن أي تغيير في مسار انتخاب رئيس للبنان يجب ألا يمس (اتفاق الطائف) أو الدستور اللبناني الذي يراه اللبنانيون وثيقة التفاهم الوحيدة المتفق عليها، مضيفا: «أي أن تبقى التوازنات الداخلية في الحكومة الجديدة مرتكزة إلى اتفاق الطائف الذي هو أساس السلطة».
واستبعد منير أن يتم انتخاب رئيس في وقت «قريب جدا» على الرغم من كثرة المطالبات الداخلية والخارجية الداعية إلى استغلال الظروف الحالية، مشيرا إلى حاجة لبنان إلى رئيس جمهورية في ضوء ما يواجهه من تحديات داخلية و«تسويات كبرى في المنطقة».
ويظل الملف الرئاسي في لبنان العقدة التي تدور في فلكها ملفات كبرى تؤدي إلى استقراره ووضع البلاد على سكة الإنقاذ الاقتصادي ناهيك عن التسويات والتفاهمات الكبيرة المتعلقة بحدوده الجنوبية بعد انتهاء الحرب الأمر الذي يجعل الدفع بهذا الملف من الضرورات الوطنية.
المصدر:الأنباء الكويتية.