ملفات شائكة في صلب محادثات ماكرون وعون في باريس

في أول زيارة رسمية له خارج العالم العربي، اختار رئيس الجمهورية، جوزاف عون، التوجه إلى فرنسا استجابةً لدعوة من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان قد زار بيروت لتهنئته بانتخابه رئيسًا للجمهورية بعد أكثر من عامين من الشغور في قصر بعبدا. ولا يُخفى أن باريس لعبت دورًا محوريًا في إنهاء الفراغ الرئاسي، سواء عبر جهودها الدبلوماسية المباشرة، من خلال اتصالات ماكرون مع قادة دوليين وإقليميين، بمن فيهم المسؤولون في السعودية ومصر والإمارات وقطر، أو عبر مساعيها داخل الاتحاد الأوروبي لضمان استمرار الاهتمام الدولي بالملف اللبناني. كما أسهمت فرنسا بفاعلية في إطار اللجنة الخماسية التي تشكلت لدعم إنجاز الانتخابات الرئاسية.

وفي هذا السياق، كلّف ماكرون عام 2023 وزير الخارجية والدفاع الأسبق، جان إيف لو دريان، بمهام المبعوث الفرنسي الخاص إلى لبنان، وهو لا يزال يواصل جهوده، حيث شملت آخر تحركاته زيارةً استمرت يومين إلى بيروت، التقى خلالها مسؤولين لبنانيين بارزين. كذلك، لعبت باريس دورًا أساسيًا في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في 28 نوفمبر الماضي، وأصرّت على أن تكون جزءًا من اللجنة الخماسية المكلفة بمراقبته. وعلاوةً على ذلك، نظم ماكرون، في 24 أكتوبر الماضي، مؤتمرًا دوليًا لدعم لبنان، أسفر عن تعهدات بتقديم مساعدات مالية بلغت مليار يورو، خُصص منها 200 مليون يورو للجيش اللبناني.

تفاصيل الزيارة وبرنامجها

يرافق الرئيس عون في زيارته الرسمية وزير الخارجية يوسف رجي وعدد من مستشاريه، حيث من المقرر أن يصل إلى قصر الإليزيه قبل الظهر. ومن المنتظر أن يدلي كلٌّ من الرئيسين ماكرون وعون بتصريحات صحفية قبل بدء جلسة المباحثات، التي ستتناول ملفات جوهرية يحملها معه الرئيس اللبناني. وستستكمل النقاشات خلال مأدبة غداء عمل في القصر الرئاسي.

وأعلن قصر الإليزيه، مساء الخميس، أن ماكرون سيعقد أيضًا اجتماعًا ثلاثيًا يضم إلى جانبه الرئيس عون والرئيس السوري أحمد الشرع، الذي سيشارك افتراضيًا. وأوضحت الرئاسة الفرنسية أن هذا اللقاء سيشكل فرصة لبحث القضايا الأمنية على الحدود اللبنانية-السورية، لا سيما في ظل التوترات الأخيرة التي أسفرت عن مواجهات، مؤكدةً التزام باريس بدعم استعادة السيادة اللبنانية والسورية.

ملفات الحدود الجنوبية والشمالية

رغم أهمية الزيارة، يبقى من غير الواضح ما إذا كانت المدة الزمنية القصيرة ستكون كافية لمناقشة جميع الملفات المعقدة التي يحملها الرئيس عون، خاصة وأن بعضها كان قد طُرح خلال لقاءات لو دريان مع المسؤولين اللبنانيين. غير أن ملف الحدود الجنوبية يكتسب أهمية استثنائية، نظرًا إلى ارتباطه المباشر بمهام اللجنة الخماسية التي تترأسها باريس.

وتفيد مصادر سياسية في العاصمة الفرنسية بأن لبنان يعوّل على دعم فرنسا للضغط على إسرائيل من أجل احترام وقف إطلاق النار والانسحاب من المواقع الخمسة التي لا تزال تحتلها. ومع ذلك، فإن المعطيات الميدانية تشير إلى أن تل أبيب لا تُولي اهتمامًا كبيرًا للمطالب الفرنسية، وتتعامل بحذر أكبر مع الموقف الأميركي، الذي يبدو أكثر انسجامًا مع رؤيتها، حيث تلقي واشنطن باللوم على لبنان و”حزب الله” في تصاعد التوترات.

وفي هذا السياق، تشير المعلومات إلى أن فرنسا لا تمتلك أوراق ضغط كافية لإجبار إسرائيل على تغيير موقفها. بل نُقل عن لو دريان أنه نصح المسؤولين اللبنانيين بالتعامل بـمرونة مع الطلب الأميركي القاضي بتشكيل وفد مفاوض يضم عسكريين وسياسيين، محذرًا من أن استمرار الرفض قد يؤدي إلى تعقيدات دبلوماسية إضافية. في المقابل، يبدي لبنان مخاوف من أن يكون الهدف الحقيقي لهذا الطرح هو دفعه نحو التطبيع مع إسرائيل، وهو ما من شأنه أن يثير انقسامات حادة في الداخل اللبناني. وقد سبق أن أعلن كلٌّ من رئيس الوزراء نواف سلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري رفضهما القاطع لهذا المسار.

في المقابل، ترى باريس أن استمرار الوجود الإسرائيلي في المواقع الحدودية يمنح “حزب الله” ذريعة لعدم الالتزام بمبدأ حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، مما قد ينسف التعهدات الواردة في خطاب القسم الرئاسي والبيان الوزاري لحكومة سلام. وفي حديث لقناة “فرانس 24”، شدد الرئيس عون على التزام لبنان بوقف إطلاق النار، معوّلًا على لجنة المراقبة الدولية لضمان تنفيذه، لافتًا إلى أن “حزب الله” يُبدي تعاونًا في ملف السلاح، وأن الحلول لا يمكن أن تكون إلا عبر الحوار.

أما الحدود الشمالية، فهي بدورها مصدر قلق متزايد، سواء بسبب المواجهات الأخيرة في منطقة بعلبك، أو بسبب التدفق المستمر للاجئين السوريين، في ظل غياب إجراءات حكومية فعالة للحد من تداعيات هذه الظاهرة، التي تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في البلاد.

المؤتمر الدولي والإصلاحات المطلوبة

خلال زيارته إلى بيروت في منتصف يناير الماضي، أعلن ماكرون عن مؤتمر دولي لدعم لبنان، بهدف مساعدته على التعافي وإعادة إعمار ما دمرته الحرب الأخيرة. حينها، ساد انطباع بأن المؤتمر سيُعقد سريعًا، غير أن مرور أكثر من شهرين على انتخاب الرئيس عون لم يشهد أي تقدم ملموس في هذا الاتجاه. ووفقًا لما كشفه لو دريان خلال زيارته الأخيرة، فإن المؤتمر لن يُعقد قبل يوليو المقبل، على أن يكون مشروطًا بتنفيذ إصلاحات جوهرية والاستجابة لمتطلبات صندوق النقد الدولي.

وفي ظل الأوضاع المالية المتعثرة، لا يمتلك لبنان القدرة على إطلاق أي مشاريع إعادة إعمار بموارده الذاتية. والمطالبات بالإصلاح ليست جديدة، إذ تعهدت الحكومة اللبنانية عام 2018، خلال مؤتمر “سيدر”، بتنفيذ إصلاحات اقتصادية وإدارية مقابل وعود بمساعدات بلغت 11 مليار دولار، إلا أن تلك الإصلاحات لم تُنفَّذ أبدًا. الأمر نفسه ينطبق على الاتفاق المبدئي الذي وقّعته حكومة نجيب ميقاتي مع صندوق النقد الدولي، لكنه لم يتحوّل إلى اتفاق نهائي.

ويُعد الاتفاق مع الصندوق الدولي أساسيًا؛ إذ يمثل ضمانة للدول المانحة والمستثمرين، ويعزز ثقة المؤسسات المالية العالمية بقدرة لبنان على تنفيذ إصلاحات جادة. لذا، يبقى انعقاد المؤتمر الدولي مرهونًا بمدى التزام السلطات اللبنانية بتعهداتها، وبقدرتها على تحقيق ما فشلت الحكومات السابقة في إنجازه لأسباب سياسية أو مصالح ضيقة.

ومنذ تشكيل حكومة نواف سلام، أُجريت مشاورات مع صندوق النقد الدولي، حيث تبدو الحكومة الجديدة أكثر تصميماً على المضي في الإصلاحات. إلا أن الواقعية تدفع الجهات الدولية إلى التريث في تقديم الدعم، انتظارًا لما ستُظهره الحكومة من خطوات ملموسة نحو الإصلاح الفعلي.

المصدر: ميشال أبو نجم – الشرق الأوسط

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة: