
أثارت دعوة وزير الداخلية والبلديات للهيئات الناخبة في لبنان حركة غير مسبوقة في المياه الراكدة، وضعت الجميع أمام استحقاق طال تأجيله بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية التي عصفت بالبلاد. بعد سنوات من الشلل والتمديد القسري، تأتي الانتخابات لتعيد الحيوية إلى الساحة المحلية، مُعيدةً إطلاق عملية التحالفات في سباق مع الزمن.
تُعكس الانتخابات البلدية في العديد من المناطق اللبنانية طبيعة الانقسام السياسي السائد والاصطفافات التقليدية التي لطالما ميّزت المشهد السياسي في البلاد. ففي العادة، كانت الانتخابات البلدية تشكل مدخلًا استراتيجيًا يُنبئ بما سيحدث لاحقًا في الانتخابات النيابية. وفيما كان البقاع الشمالي يشكل نموذجًا لتداخل السياسة بالعائلة والمذهب، شهدت المنطقة تحولات جذرية بعد الحرب الأخيرة وسقوط النظام السوري. أدّت هذه التحولات إلى فرض توافق سياسي شبه تام بين مختلف القوى السياسية، مع التركيز على وحدة الطائفة الشيعية كخيار استراتيجي في ظل المستجدات الأمنية والسياسية.
وحتى في مدينة بعلبك التي طالما كانت ساحة لصراعات انتخابية محتدمة، بقي «حزب الله» القوة السياسية المهيمنة، حيث نجح في فرض إيقاعه على الاستحقاق البلدي، محاولًا تشكيل لوائح توافقية تُجمع حولها العائلات النافذة في المنطقة. كان حزب الله يعمل على ضمان أن تبقى المجالس البلدية والاتحادات المحلية خارج الحسابات الحزبية الضيقة، مؤكدًا بذلك موقفه المبدئي في تجنب أي انقسامات داخل البيئة الشيعية. ومع مرور الوقت، تزايدت أعداد القوى المعارضة التي كانت تحاول كسر هذه الهيمنة، لكن مع ضمانات الحزب والحرص على إبقاء الساحة الشيعية موحدة في المقام الأول.
في مناطق أخرى تتداخل فيها القوى الشيعية مع الطوائف المسيحية والسنية، كأن في المناطق المختلطة أو تلك التي يتقاسم فيها «الثنائي الشيعي» المجالس البلدية مع ممثلي الطوائف الأخرى، يسود التوافق المشروط الذي يضمن تمثيلًا عادلاً للطوائف مع ضمان استمرار الحصص المحلية للشيعة في المجالس البلدية. رغم هذه التفاهمات، يبقى «حزب الله» اللاعب الأساسي في الحفاظ على وحدة صفوفه وعلى تقديم حلول توافقية مع الأطراف الأخرى.
على الصعيد السني، ورغم التراجع الكبير في دور تيار «المستقبل» بعد الأزمة السياسية الأخيرة، تبرز عودته إلى الساحة السياسية في الانتخابات البلدية لعام 2023. يأتي ذلك بعد التنسيق المشترك مع دار الفتوى في بعلبك الهرمل، حيث يتعاون الطرفان في صياغة تحالفات محلية مع القوى السياسية المختلفة. هذا التعاون يبدو أكثر حرصًا على الحفاظ على حضور «المستقبل» السياسي، في محاولة للتكيّف مع واقع سياسي متغير.
في الختام، الانتخابات البلدية المقبلة في بعلبك الهرمل لا تعد مجرد استحقاق تقليدي بل هي محكومة بتوازنات حساسة بين القوى المحلية والإقليمية. ستلعب العائلات دورًا محوريًا في تحديد مسار العملية الانتخابية، بينما يبقى التوافق هو العنوان الأبرز في مناطق نفوذ «حزب الله». ويبقى التحدي الكبير هو قدرة المجالس المنتخبة على تفعيل التنمية المحلية وتحقيق الحد الأدنى من تطلعات المواطنين في ظل الأزمات المستمرة.
المصدر: عيسى يحيى – نداء الوطن