المناصفة و حقوق الأقليات واللوائح المغلقة: تحدّيات الإنتخابات البلدية اللبنانية في ظلّ التوازنات السياسية الجديدة

بقلم ندى جوني- ديموقراطيا نيوز

لطالما شكّلت المناصفة في بيروت إحدى الركائز الأساسية للصيغة اللبنانية، حيث أرسى الرئيس الشهيد رفيق الحريري هذا المبدأ لضمان تمثيل متوازن بين الطوائف، بغض النظر عن أوزانها الديموغرافية.
لم يكن الهدف مجرد توزيع مقاعد، بل تكريس شراكة وطنية تحمي الإستقرار السياسي من جهة، وتمنع أي طائفة من فرض هيمنتها من جهة أخرى. إلا أن هذا التوازن الهش أصبح اليوم في مهب الريح، مع تعثّر تشكيل اللوائح الإنتخابية، وتزايد الإنقسامات حول آلية تحقيق المناصفة، وطرح التعديلات القانونية كشرط لضمان استمرارها.
في موازاة ذلك، تعاني الأقليات، في كلّ من طرابلس وصيدا من معضلة التمثيل، حيث يواجهون خطر التشطيب الإنتخابي، ما يجعل الحفاظ على مقاعدهم تحدياً في ظل النظام الإنتخابي الحالي. وبينما يرى البعض أن اللوائح المغلقة قد تكون الحل لحماية هذه المقاعد وضمان تمثيل متوازن، يعتبر آخرون أنها قد تُستخدم كأداة لتعزيز الهيمنة السياسية وتقييد خيارات الناخبين.
ومع تصاعد هذه التحديات، جاء تأجيل الانتخابات البلدية للمرة الثالثة حتى عام 2025، بحجة التحضير لاعتماد “الميغاسنتر” وإجراء تعديلات قانونية. غير أن هذا القرار أثار جدلاً واسعاً، إذ يُنظر إليه من قبل بعض القوى على أنه خطوة مدروسة لإعادة رسم التوازنات السياسية، بدلاً من كونه مجرد تأجيل تقني لإصلاح النظام الانتخابي.
فهل يكون هذا التأجيل فرصة لإعادة هيكلة المشهد البلدي وفق توازنات جديدة؟ أم أنه مجرد محطة أخرى في سلسلة الأزمات السياسية التي تعصف بالبلاد؟ وهل يمكن تحقيق المعادلة الصعبة بين الحفاظ على المناصفة، حماية الأقليات، وضمان انتخابات أكثر ديمقراطية؟

تأجيل الانتخابات: المبررات والتداعيات

تم اقتراح تأجيل الانتخابات البلدية والاختيارية لمدة أربعة أشهر، وسط تبريرات رسمية تدور حول ضرورة التحضير لإطلاق مشروع “الميغاسنتر”، بالإضافة إلى إدخال تعديلات قانونية تهدف إلى تحسين العملية الانتخابية. ضمن الإطار نفسه، يُنظر إلى “الميغاسنتر”، الذي يسمح للمواطنين بالتصويت من أماكن سكنهم بدلاً من الانتقال إلى مناطق قيدهم، على أنه خطوة إصلاحية قد تساهم في رفع نسبة المشاركة في الإنتخابات، وتخفيف التأثيرات الطائفية التي تشوب العملية الإنتخابية. ومع ذلك، يتطلب تنفيذ هذا المشروع تحضيرات لوجستية وتشريعية لم تُنجز بعد، ما دفع إلى التفكير في تأجيل الانتخابات.
إلى جانب ذلك، طُرحت تعديلات على القانون الانتخابي، ومن أبرزها مسألة اللوائح المغلقة، التي توفر حماية أفضل للأقليات من التشطيب، بينما يرى معارضو هذه التعديلات أنها قد تؤدي إلى تقليص خيارات الناخبين، وتعزيز النفوذ الحزبي.

تباين المواقف السياسية: بين التأييد والرفض

انقسمت القوى السياسية حول فكرة التأجيل. فبعض الأطراف، التي لم تتمكن من تشكيل لوائح انتخابية موحدة أو تعاني من تراجع شعبيتها، رأت في التأجيل فرصة لإعادة ترتيب صفوفها وتجنب خسائر انتخابية.
في المقابل، اعتبرت قوى أخرى أن التأجيل ليس إلا مناورة لتعطيل الاستحقاق الانتخابي وتعزيز الهيمنة السياسية للأحزاب القائمة، ما قد يؤدي إلى تأبيد الوضع الحالي وعدم تمكين المواطنين من ممارسة حقهم الديمقراطي.

التداعيات على المناصفة و تمثيل الأقليات

يُعتبر التأجيل بمثابة تحدٍ لمبدأ المناصفة في بيروت، حيث تبقى مسألة تشكيل اللوائح الانتخابية دون توافق بين القوى السياسية. إذا لم يتم تعديل القانون الانتخابي، فهناك مخاوف حتماً من أن يؤدي هذا الأمر إلى اختلال التوازن التمثيلي داخل المجالس البلدية، خاصة في ظل استمرار الخلافات السياسية حول آلية تحقيق المناصفة.
أما في طرابلس وصيدا، فإن الأقليات تواجه تهديداً مباشراً على تمثيلهم السياسي، خاصة إذا لم تُعتمد اللوائح المغلقة التي تحمي مقاعدهم من التشطيب. وبينما يرى البعض أن هذه اللوائح قد تضمن تمثيلاً عادلاً، يرى آخرون أنها قد تكون وسيلة لتعزيز نفوذ الأحزاب الكبرى على حساب تمثيل الأقليات.

المناصفة في بيروت: ركيزة التوازن السياسي والطائفي

شكّلت المناصفة في بيروت أحد أعمدة التوازن السياسي والطائفي في لبنان حيث رسّخها الرئيس رفيق الحريري كخيار استراتيجي يضمن تمثيلًا متكافئًا بين المسلمين والمسيحيين، بعيداً عن أي متغيرات ديموغرافية قد تؤثر على ميزان القوى داخل العاصمة كما أشار المقال سابقاً.
لم يكن هذا الطرح مجرد تسوية ظرفية، بل جاء ضمن رؤية شاملة لإرساء استقرار سياسي ينعكس على مختلف المؤسسات، ويمنع أي جهة من فرض سيطرتها العددية على إدارة المدينة. غير أن هذه الصيغة، التي استمرت لعقود، تواجه اليوم تحديات كبيرة تعيق تطبيقها، إذ باتت المناصفة مرهونة بقدرة القوى السياسية على التفاهم فيما بينها، وهو ما يبدو بعيد المنال في ظل الإنقسامات العميقة التي تحول دون تشكيل لوائح موحدة.
فالخلافات الحزبية والمصالح المتباينة جعلت من عملية بناء اللوائح الانتخابية أمراً معقداً، حيث يسعى كل طرف إلى تعزيز نفوذه وتأمين حصته، مما يزيد من احتمالات التشطيب الانتخابي، وهو الخطر الأكبر الذي يهدد المناصفة. فآلية التشطيب في اللوائح المفتوحة تتيح للناخبين استبعاد أسماء معينة، ما قد يؤدي إلى فقدان مرشحين مسيحيين أو مسلمين لأصواتهم، وبالتالي ضرب التوازن الذي قامت عليه المناصفة في بيروت.
في هذا السياق، يطرح البعض تعديل القانون الإنتخابي كحل ضروري للحفاظ على هذه المعادلة، وذلك عبر اعتماد اللوائح المغلقة التي تمنع الناخب من حذف أي اسم، ما يضمن بقاء التوزيع الطائفي ثابتاً كما كان مقرراً عند تشكيل اللوائح.
إلا أن هذا المقترح يواجه معارضة واسعة، إذ يرى منتقدوه أنه يحدّ من حرية الناخب، ويمنح الأحزاب السياسية سلطة مطلقة في اختيار المرشحين، مما يقلل من فرص أي تغيير ديمقراطي حقيقي. وهكذا، فإن مستقبل المناصفة في بيروت يبقى عالقاً بين تحديات الواقع السياسي، حيث تتأرجح المسألة بين الحاجة إلى الحفاظ على التوازن الطائفي، ومتطلبات الديمقراطية التي تستوجب ترك مساحة كافية لإرادة الناخبين في اختيار ممثليهم.

تأثير التشطيب واللوائح المغلقة على تمثيل الأقليات في الانتخابات اللبنانية

تُعدّ عمليات التشطيب من القضايا المثيرة للجدل في النظام الانتخابي اللبناني، إذ تؤثر بشكل كبير على تمثيل الأقليات، في المدن الكبرى مثل طرابلس وصيدا. لذلك، ومن أجل تحقيق التمثيل الصحيح والعادل، يجب أن تأخذ العملية الانتخابية بعين الاعتبار، خصائص المجتمع اللبناني المتنوع. لذا فإن عمليات التشطيب، التي تتضمن شطب أسماء من قوائم الانتخابات، قد يكون لها تأثيرات سلبية في بعض الأحيان على تمثيل الأقليات.

هل تشكل اللوائح المغلقة حلًّا يحمي هذه المقاعد؟

إن اللوائح المغلقة هي إحدى الطرق المقترحة للتعامل مع هذه المسألة. ففي النظام الانتخابي اللبناني، تعتبر اللوائح المغلقة أداة لحماية حقوق الأقليات وتوفير تمثيل متوازن في البرلمان. بعبارة أخرى، تعني اللائحة المغلقة أن المرشحين الذين يتم اختيارهم في اللائحة لا يمكن أن يُستبدلوا أو يتم شطبهم من قبل الناخبين، مما يضمن التزام الأحزاب بحماية مقاعد الأقليات.

في هذا السياق، قد تسهم اللوائح المغلقة في ضمان تمثيل الأقليات في طرابلس وصيدا، بحيث لا يتم استبعادهم لصالح مرشحين من الأحزاب الكبرى أو من الأكثرية السائدة.
ولكن، تكمن المشكلة في أن اللوائح المغلقة قد تكون معرضة لاستغلال سياسي من قبل الأحزاب الكبرى، بحيث تصبح أداة للمحافظة على توازن القوى بين الطوائف الكبرى، دون أن تعطي للأقليات حقًا حقيقيًا في التعبير عن أنفسهم. لذا، من المهم أن يتم تصميم اللوائح المغلقة بطريقة تضمن تمثيلًا حقيقيًا وعادلًا لجميع الفئات، دون أن يتحول ذلك إلى وسيلة للحفاظ على مصالح قوى سياسية معينة فقط.

اللوائح المغلقة في الانتخابات البلدية: بين الحفاظ على التوازن السياسي وتكريس الهيمنة الحزبية

اللوائح المغلقة، هي نظام انتخابي يُستخدم في بعض البلدان، وذلك عبر تحديد قائمة من المرشحين مسبقًا من قبل الأحزاب السياسية أو التحالفات، ولا يسمح للناخبين بتعديل ترتيب هذه القائمة أو شطب أي من أسمائها.
ففي الانتخابات البلدية، تهدف اللوائح المغلقة إلى تحقيق الإستقرار السياسي وضمان تمثيل متوازن للقوى السياسية المختلفة. ولكن، هناك آراء مؤيدة وأخرى معارضة لهذا النظام. من جهة، يرى المؤيدون أن اللوائح المغلقة تساهم في تعزيز الاستقرار السياسي من خلال منع التشرذم داخل الأحزاب وضمان التنسيق بين المرشحين الذين ينتمون لنفس الحزب أو التحالف.
كما يُعتبر هذا النظام أشبه بوسيلة لحماية تمثيل الأقليات، حيث يتم تخصيص مقاعد لهم ضمن اللوائح، ما يضمن لهم تمثيلاً عادلاً في المجالس البلدية. بالإضافة إلى ذلك، يقلل هذا النظام من تأثير المال السياسي والضغوط الشخصية، حيث لا يستطيع الناخب تغيير ترتيب الأسماء داخل اللائحة، مما يجعل التصويت يتم وفقًا للخيارات الجماعية للحزب أو التحالف.
من جهة أخرى، ينتقد المعارضون اللوائح المغلقة، بإعتبارها تساهم في تقليل التنافسية في الانتخابات. كما تحرم الناخبين من حرية اختيار مرشحهم المفضل من بين عدة مرشحين داخل نفس الحزب أو التحالف، مما يقلل من المنافسة السياسية ويُضعف قدرة الناخب على اتخاذ قراره بناءً على كفاءة الفرد. كما يرى البعض أن هذا النظام يعزز من هيمنة الأحزاب الكبرى على الانتخابات، مما يجعل من الصعب على الأحزاب الصغيرة أو المرشحين المستقلين أن ينافسوا على المقاعد.
كذلك، فقد تؤدي اللوائح المغلقة أيضاً إلى تكريس الانقسامات الطائفية أو الحزبية، حيث يتم تحديد المقاعد بناءًا على التوازنات الطائفية أو الحزبية مسبقًا، مما يحدّ من التنافس الحقيقي على أساس البرامج الانتخابية أو الكفاءات الفردية. بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي هذا النظام إلى غموض المسؤولية السياسية، حيث يصعب تحديد من يتحمل مسؤولية القرارات المتخذة أو فشل بعض الأفراد في الأداء، بما أن التصويت يتم بشكل جماعي للائحة.

من ناحية أخرى، قد يتباين تأثير اللوائح المغلقة على التنافس الانتخابي والتمثيل الديمقراطي. من جهة، يمكن أن تسهم في ضمان تمثيل أكثر عدالة للأقليات، ولكن من جهة أخرى، قد تعزز هيمنة الأحزاب الكبرى وتحد من حرية الناخبين في التعبير عن آرائهم واختيار مرشحيهم بناءً على معايير شخصية أو موضوعية.

وأخيراً، ما زال المشهد الانتخابي اللبناني محاطاً بتحديات كبيرة تلامس جوهر الديمقراطية وحقوق الأقليات، إذ يشهد التوازن بين المناصفة الطائفية والمشاركة السياسية جدلاً حاداً. قد تكون اللوائح المغلقة ضمانة للحفاظ على حقوق الأقليات وحمايتها من التشطيب، ولكن هل ستكون هذه الحلول طويلة الأمد؟ أم أنها مجرد قيد جديد على حرية الناخب؟ فبينما يسعى لبنان لإصلاح نظامه الإنتخابي، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: هل يستطيع هذا البلد الذي يحمل في طياته تنوعاً طائفياً ودينياً فريداً أن يحقق توازناً بين استقرار النظام السياسي وحرية المواطن في اختيار ممثليه؟ أم أن الأزمات ستظل تعصف بهذا النموذج الديموقراطي الذي طالما كان في حاجة إلى إصلاح حقيقي؟
وبناءًا على كل ذلك، يبقى السؤال الأهم هل ستجري الإنتخابات البلدية في موعدها؟، و وفق اي سيناريو؟؟

المصادر

  • المدن، الانتخابات البلدية: مؤشرات صراع وتحالفات للانتخابات النيابية، دنيز عطالله
  • الأخبار، الانتخابات البلدية بين 4 و25 أيار… ولا استثناء للقرى الحدودية، رلى ابراهيم
  • اللواء، الاستحقاق الانتخابي البلدي إلى الواجهة وللعاصمة طابعها الخاص، لينا الحصري زيلع
  • المدن، مقاعد المسيحيين والعلويين مهددة في طرابلس، بشير مصطفى



شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة: