وجع مكتوم في الجنوب: ما لا يُقال أمام الكاميرات

جلستُ على شاطئ صور في صيف عام 2022، بينما كان صوت الموج يرتفع وينخفض كأنه يسرد بصوته المالح حكايات دفنتها الخشية والترهيب. إلى جانبي، جلس عدد من الشبّان من أبناء المدينة، استقبلوني بحفاوة الجنوب المعهودة، وكأنهم يعرفونني منذ زمن. ما بدأ كحديث عابر سرعان ما تحوّل إلى نقاش عميق، لم يتردد خلاله أحدهم في التعبير عن يأسه من الواقع، واهتزازه من الإيمان بما كان يُعرف بـ “المقاومة”.

قال أحدهم بمرارة: “وعدونا إنو المقاومة بتحمينا وبتحارب الفساد، بس نحنا خسرنا كل شي متل غيرنا، والفاسدين حمايتهم المقاومة”. وأضاف آخر: “وين راحت المقاومة لما سلّمنا كاريش؟”. كان ذلك اللقاء في أعقاب اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، حين شعر كثيرون أن “حزب الله” قدّم ما كانت تتطلع إليه تل أبيب. أحد الشبّان تساءل بوضوح: “إذا اعترفنا بإسرائيل بالترسيم، وأعطيناها اللي بدها ياه، شو بقي من سلاح المقاومة؟”.

تلك اللحظة كانت بداية انكشاف حالة التململ داخل البيئة الشيعية، التي لطالما اعتُبرت الحاضنة الأساسية لـ”حزب الله”. لكن بعد حرب 2023-2024، لم يعد الأمر مقتصراً على التململ، بل تحوّل إلى خطاب علني، وصوت صارخ في المجالس الخاصة والدوائر المغلقة.

ما يُقال اليوم، يُردّده كثيرون بصوت مسموع: من مناصرين سابقين، إلى إعلاميين وسياسيين، إلى عامة الناس الذين سئموا الخسائر المتراكمة. أحدهم يقول: “قرار الحرب كان غلط من الأساس… ليش بعد ما تهدّ البلد لازم نكمل؟”. وآخر يتساءل: “ليش نحنا بعدنا حاملين قضية فلسطين، إذا بلدنا كلّو دمّر من وراها؟”. وهناك من يسأل بصراحة موجعة: “إذا خسرت بيتي، مين بيرجعلي إياه؟ الحزب؟ الدولة؟ حدا؟”.

هذه الأصوات لم تعد استثناءً، بل باتت جزءاً من فسيفساء حقيقية داخل الطائفة، تعبّر عن إنهاك جماعي، وغضب مكتوم. من مرحلة 17 تشرين وما بعدها، كثيرون في هذه البيئة اختبروا ما يسمّونه الآن: “ما قبل السحسوح وما بعده”، في إشارة إلى القمع، والحرمان، والتهديد الذي طال كل من تجرّأ على الاعتراض.

في وجه هذا الواقع، تواصل قيادة “حزب الله” محاولاتها لضبط الإيقاع، من خلال خطابات عاطفية أو مواد ترويجية تُذكر الناس بما تسميه “الانتصارات الإلهيّة”، في محاولة لإعادة تعبئة الشارع الغاضب، وكأنّ العقيدة يمكن أن تخفّف من أعباء الواقع الموجع.

ولذا، حين تُدلي نائبة المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، بتصريحات عن خطر إيران وسلاح “حزب الله”، لا يقتصر من يتفهّم كلامها على الخصوم التقليديين للحزب، بل يشمل أيضاً فئة واسعة من الشيعة أنفسهم، ممن كانوا يعتقدون يوماً بقضية “المقاومة”، واكتشفوا اليوم وجهًا آخر لها.

اليوم، لا يرى كثيرون في هذا السلاح قوّة، بل عبئاً. ولا في الحرب بطولة، بل مجازر. صاروا يريدون الحياة لأولادهم، لا الموت لأجل أحد. الخوف لم يعد وسيلة ناجعة لضبطهم، فهم يُقتلون يومياً… اقتصادياً، نفسياً، ومعنوياً. والموت الذي يُباع لهم باسم “القضية” لم يعد يقنعهم.

البيئة التي خُنقت بالصمت، آن أوان تحرّرها. فالذين يهدَّدون بالقتل، يُقتلون فعلاً كل يوم بطريقة أو بأخرى. والسلاح الخارج عن الشرعية لم يحمِ، بل دمّر. آن الأوان لأن تقول هذه البيئة كلمتها: نحن نريد الحياة، لا الموت المقنّع بشعارات.

المصدر:ماريان زوين – نداء الوطن

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة: