
بقلم: ندى جوني
بعد سنوات من الإنهيار الإقتصادي المتواصل، والحرب المفتوحة على جبهة لبنان الجنوبية، وسقوط نظام بشار الأسد، الذي شكّل لعقود امتداداً لنفوذ إقليمي داخل لبنان، وجد اللبنانيون أنفسهم أمام مرحلة سياسية جديدة، عنوانها الأبرز: ” انتخاب قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهورية “. هذا الانتخاب لم يكن تفصيلاً في سياق عادي، بل نتيجة مباشرة لتوازنات داخلية متهالكة، واصطفافات إقليمية تعيد رسم المشهد في لبنان والمنطقة.
في ظل هذا الواقع، بدت المؤسسة العسكرية، بقيادة جوزاف عون، الجهة الوحيدة التي احتفظت بشيء من التماسك والثقة الشعبية، في وقت تراجعت فيه شرعية باقي المؤسسات. ومع انكشاف البلاد على الاحتمالات الأمنية والعسكرية، شكّل صعود عون إلى الرئاسة محاولة لاحتواء الانهيار، ولملمة ما تبقّى من هيبة الدولة.
إلاّ أن التحدي الحقيقي يبدأ الآن: فكيف سيتعامل الرئيس الجديد مع ملف سلاح “حزب الله” في غياب الغطاء السوري؟ وهل سيستطيع الحفاظ على استقلالية الجيش وموقعه الحيادي في ظل تحوّله إلى رأس الدولة؟ كما أنه هل سيتمكن من الفصل بين الأمن والسياسة، أم أن منطق الضرورة سيعيد إنتاج الدور الرئاسي ضمن حدود الممكن لا الطموح؟ ثم، كيف سيتصدى للأزمة الاقتصادية التي باتت تهدد استقرار البلاد ومصير العهد من بدايته؟
من “القائد الحيادي” إلى “رجل الدولة”: اختبار التحوّل السياسي
إن انتقال جوزاف عون من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية يشكّل اليوم حدثاً فارقاً في تاريخ لبنان الحديث، إذ إنه لم يكن أول قائد للجيش يتولى هذا المنصب، فقد سبقه كل من إميل لحود وميشال سليمان، وميشال عون. ولكن ما يختلف اليوم، هو السياق الذي يأتي فيه هذا الانتقال. بعبارة أخرى، يعاني لبنان من انهيار اقتصادي غير مسبوق، أزمة سياسية حادة، وفقدان الثقة بمؤسسات الدولة. مما يضع جوزاف عون أمام تحديات معقدة، أولها الانتقال من منصب يتسم بالحيادية السياسية إلى آخر يتطلب الانغماس الكامل في الصراعات السياسية.
من ناحية أخرى، حافظ جوزاف عون طوال الفترة السابقة على صورة القائد الحيادي. فقد وقف بعيداً عن التدخل في الصراعات السياسية الداخلية في لبنان، وكان الجيش، تحت قيادته، يمثل رمزاً للوحدة الوطنية. هذه الحيادية عززها دوره البارز في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية عام 2019، حيث التزم الجيش بالتحفظ وعدم التورط في الصراعات السياسية رغم الضغوطات الهائلة. ومع ذلك، تختلف الرئاسة تختلف تماماً عن قيادة الجيش، فهي منصب سياسي بامتياز، يتطلب منه اتخاذ مواقف من القضايا الوطنية والإقليمية. ومن هنا ينشأ التساؤل: كيف سيتعامل جوزاف عون مع هذه المتطلبات السياسية، وكيف سيوازن بين كونه رئيساً للجمهورية وأخذ القرارات السياسية وبين الحفاظ على استقلالية الجيش؟
إن الرئيسان السابقان إميل لحود وميشال سليمان، اللذان جاءا من خلفية عسكرية، واجها انتقادات بسبب ما اعتُبر توظيفًا للمؤسسة العسكرية في الشأن السياسي. لحود، الذي وصل إلى الرئاسة بدعم سوري، اتُّهم باستخدام الجيش لترسيخ سلطته، ما أثّر على صورة المؤسسة العسكرية كجهة محايدة. أما ميشال سليمان، فوجد نفسه أمام تحديات التوفيق بين التوازنات السياسية الدقيقة بعد اتفاق الدوحة عام 2008، ورغم سعيه للحفاظ على موقعه الوسطي، اصطدم بواقع سياسي معقّد قلّص من هامش حياده. أما ميشال عون، فواجه خلال ولايته انتقادات كبيرة بسبب تحالفه الوثيق مع “حزب الله”، ما رآه خصومه افتقاراً للاستقلالية وتغليباً لمصالح فئوية على حساب دور الرئاسة الجامع.
لكن، بالنسبة لجوزاف عون، فإن التحديات التي يواجهها أكبر بكثير، خاصة في ظل الأزمات التي يعاني منها لبنان. أزمة اقتصادية طاحنة جعلت من الصعب على اللبنانيين الثقة في الدولة أو في مؤسساتها، إضافة إلى انقسام سياسي حاد، وهي جميعها عوامل تزيد من تعقيد مهمته. في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل أن الجيش اللبناني، في ظل قيادة عون، ظل الحاضن الوحيد للثقة الوطنية في هذا المناخ السياسي المتأزم.
إذا كانت الرئاسة في لبنان تحتاج إلى اتخاذ مواقف واضحة في القضايا الوطنية، فإن السؤال الأساسي الذي يواجه جوزاف عون هو كيفية إدارة العلاقة مع الجيش بعد أن أصبح رئيساً.
الرئاسة تحت الضغط: هل ينجح عون في إنقاذ ما تبقى من الاقتصاد؟
لا يمكن النظر إلى العهد الرئاسي الجديد خارج إطار الإنهيار الاقتصادي المتواصل، الذي لم يعد مجرد أزمة مالية أو مصرفية، بل تحوّل إلى نمط حياة يثقل يوميات اللبنانيين، ويقوّض ثقتهم الكاملة بالدولة ومؤسساتها. يصل جوزاف عون إذاً إلى الرئاسة محمولاً على رصيد الثقة الذي بناه خلال قيادته للجيش، سيجد نفسه في مواجهة منظومة اقتصادية متهالكة، ومؤسسات إدارية متآكلة، ونظام مصرفي مشلول، وأزمة ثقة شاملة على المستويين الداخلي والخارجي.
بعبارة أخرى، لم تعد تقتصر الأزمة اليوم على المؤشرات الاقتصادية التقليدية، بل تتداخل مع عمق اجتماعي يتجلّى في انكماش الطبقة الوسطى، واتساع رقعة الفقر، وتراجع التعليم والاستشفاء، وهجرة الكفاءات، ما يجعل أي خطة إنقاذ اقتصادية غير قادرة على الانطلاق من أرقام أو سياسات مالية فحسب، بل مطالبة بإعادة بناء العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.
لذلك، إن التحدي الذي سيواجهه عون هنا ليس فقط في بلورة رؤية اقتصادية قابلة للتطبيق، بل في قدرته على تأمين الحد الأدنى من التوافق السياسي لتنفيذ هذه الرؤية. فالإصلاحات الضرورية من إعادة هيكلة القطاع المصرفي، إلى تقليص عجز القطاع العام، إلى ضبط الإنفاق ومكافحة الفساد المزمن، كلّها تستدعي توافر إرادة سياسية عابرة للطوائف والمحاصصات، وهو أمر أثبت الواقع اللبناني أنه صعب المنال.
أما على المستوى الدولي، فالعهد الجديد سيكون موضع اختبار من قبل الجهات المانحة وصندوق النقد الدولي، التي تنتظر إشارات جدية على الالتزام بالإصلاحات مقابل أي دعم مالي خارجي. في المقابل، فإن غياب الاستقرار السياسي أو فشل الحكومة في تلبية شروط الإصلاح، سيضعف موقع الرئيس التفاوضي، ويقلّص من هامش حركته على الساحة الخارجية، ما قد يعمّق العزلة الاقتصادية ويزيد من حدّة التدهور.
أمام هذا الواقع، لا يملك جوزاف عون ترف الوقت ولا ترف التجربة والخطأ. المطلوب منه ليس فقط الخروج بخطة إنقاذ، بل الأهم القدرة على تنفيذها في بيئة مليئة بالإنقسامات السياسية والطائفية. إذاً، فالنجاح في هذا الملف قد يعيد للرئاسة بُعدها المؤسساتي المفقود، فيما الفشل فيه سيضعف موقعه سريعًا، ويُعيد إنتاج مشهد الانهيار الذي بات مألوفًا في يوميات اللبنانيين.
سلاح “حزب الله”: التحدي الأكبر أمام الرئاسة اللبنانية
تعدّ قضية سلاح “حزب الله” من أبرز المعضلات التي تواجه الرئيس جوزاف عون خاصة بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة.
ضمن الإطار نفسه، وطوال فترة قيادته للجيش اللبناني، تجنب عون الدخول في صدام مباشر مع “حزب الله”، واكتفى بالحفاظ على توازن حذر بين حماية الأمن الداخلي والحياد السياسي، في ظل وجود الحزب كقوة مسلحة ذات نفوذ كبير في البلاد. كان الجيش اللبناني تحت قيادة عون يُعتبر “الحيادي” في المسائل السياسية، وهو ما كان يساهم في تعزيز الثقة الشعبية في المؤسسة العسكرية كحامي للوحدة الوطنية.
لكن تختلف الرئاسة بشكل جوهري عن قيادة الجيش، إذ يفرض منصب الرئيس على عون اتخاذ مواقف سياسية حاسمة بشأن قضايا مصيرية، أبرزها مسألة سلاح “حزب الله”. وفي هذا السياق، يبرز موقف المجتمع الدولي، الذي يطالب بنزع سلاح الميليشيات اللبنانية بما فيها “حزب الله”، معتبراً بدوره أن السلاح غير الشرعي يشكل تهديداً لسيادة الدولة اللبنانية ويُسهم في تأجيج الأزمات الإقليمية.
من جهة أخرى، يرى “حزب الله” أن سلاحه هو جزء أساسي من استراتيجية الدفاع عن لبنان في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، وهو ما أكده أمينه العام حسن نصر الله الذي قتلته إسرائيل في الحرب الأخيرة، في عدة مناسبات، معتبراً أن المقاومة المسلحة حق طبيعي للدفاع عن لبنان. هذه الرؤية لا تقتصر على الحزب وحلفائه في لبنان، بل تجد تأييدًا من فئات كبيرة في المجتمع اللبناني، لا سيما في المناطق التي يسيطر عليها الحزب. ولذلك، فإن أي خطوة من الرئيس عون نحو حصر السلاح بيد الدولة قد تثير ردود فعل معارضة من هذه الفئات، التي تعتبر أن الجيش اللبناني لا يمتلك القدرة على مواجهة التهديدات الإسرائيلية بنفس كفاءة “حزب الله “.
إضافة إلى ذلك، تبرز التساؤلات حول العلاقة بين الجيش اللبناني و”حزب الله”. على الرغم من أن الجيش يلتزم بموقف رسمي محايد، تشير بعض التقارير إلى أن هناك تفاعلات غير مباشرة بين الجيش والحزب في مسائل تتعلق بالأمن الداخلي، خاصة في المناطق الحدودية مع سوريا. لكن، مع تولي عون الرئاسة، تتزايد الضغوطات عليه لتحديد موقفه بشكل أكثر وضوحاً، إما بالضغط على الحزب لتسليم سلاحه أو بالقبول باستمرار الوضع القائم.
التحدي الأكبر: الحفاظ على حياد الجيش في ظل التوترات السياسية
من بين أبرز النقاط التي تُحسب لجوزاف عون خلال قيادته للجيش اللبناني هو سعيه للحفاظ على الجيش كمؤسسة موحدة بعيدة عن الاستقطاب السياسي، وهو ما ساهم في تجنيب لبنان انفلاتاً أمنياً في أوقات حساسة. ولكن، مع توليه رئاسة الجمهورية، من المتوقع اتخاذ مواقف سياسية حاسمة قد لا تبقى على مسافة واحدة من الجميع.
بعبارة أخرى، إن إمكانية فصل الأمن عن السياسة في عهد عون ستكون مرتبطة بقدرته على الحفاظ على حياد الجيش وعدم السماح له بأن يُستخدم لخدمة أجندات سياسية أو حزبية. كما أن التعيينات العسكرية، بالإضافة إلى التعامل مع التظاهرات أو الاضطرابات، ستكون من المؤشرات الرئيسية على نجاحه في هذا الفصل بين الأمن والسياسة.
بالطبع، يُظهر انتقال جوزيف عون من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية تحولاً معقداً في مسار الحياة السياسية اللبنانية. فمع هذه التحديات الكبيرة التي يواجهها لبنان، سيجد الرئيس عون نفسه في مفترق طرق. هل سينجح في الحفاظ على توازن بين الحياد العسكري والضغط السياسي؟ وهل سيتمكن من إيجاد حلول لأزمات لبنان الاقتصادية والسياسية في ظل الانقسام الحاد بين القوى السياسية؟ المستقبل سيكشف ما إذا كان الرئيس الجديد سيستطيع التغلب على هذه التحديات ويبني معادلة تضمن استقرار لبنان ووحدته في ظل الظروف الراهنة.
المصادر والمراجع:
- الشرق الأوسط، تحليل حول تطورات العلاقة بين الرئاسة اللبنانية و”حزب الله “، 2022.
- مؤسسة كارنيجي للسلام، دراسة حول دور “حزب الله” في السياسة اللبنانية، 2022.
- شباك ميديا، التحديات الاقتصادية في لبنان.. كيف يواجه الرئيس الجديد جوزف عون أزمة الانهيار المالي، 2025.
- مركز شاف للدراسات، التحديات الاقتصادية اللبنانية: ماذا بعد انتخاب جوزيف عون، 2025.
- إندبندنت عربية، سيناريوهات ما بعد انتخاب جوزاف عون رئيسا للبنان، 2025.
- الجزيرة، ماذا بعد انتخاب جوزيف عون رئيسا للبنان، 2025.