
رغم الانطباع السائد لدى اللبنانيين بأن الوضع في البلاد لا يتغير، فإن هذا التصوّر يستحق المراجعة. أحد أبرز أسبابه هو تمسك “حزب الله” المعلن بسلاحه ومشروعه، الذي يُعتبر جوهر الانقسام السياسي منذ عام 2005. وهذا ما يغذي مخاوف الرأي العام من أن تضيع فرصة قيام دولة فعلية من جديد.
من عايش مرحلة ما بعد الحرب، يدرك جيداً أن بسط النظام السوري سيطرته على لبنان لم يحدث فجأة، بل جاء نتيجة مراحل متتالية، مستفيداً من الغياب الدولي والدعم العسكري والسياسي للأسد. وقد تطلب الأمر وقتاً قبل أن يتمكن من فرض قبضته بشكل كامل، في وقت لم تكن القوى المناهضة قادرة على تغيير المعطيات، فكان الحد الأقصى الممكن هو التكيّف تحت الوصاية السورية.
أما اليوم، فالمشهد مغاير تماماً. لم يعد بمقدور “حزب الله” أن يقلب الوقائع أو يوقف التغيرات الحاصلة، ولم يعد أمامه سوى التكيف معها. فمرحلة التحولات الجذرية لم تأت على شكل انهيار صادم كما حدث في العراق أو ما يُرجى في سوريا، لكنها تقود لبنان نحو مرحلة جديدة يمكن وصفها بـ”عصر اللبننة” بعد عقود من التبعية.
ثمة نقاط جوهرية يجب التوقف عندها:
أولاً، انتهى الدور العسكري الإيراني خارج إيران حتى قبل انطلاق المفاوضات بين طهران وواشنطن في سلطنة عمان. هذا الدور لم يعد مطروحاً للتفاوض ولا قابلاً للعودة، أما الورقة الحوثية المتبقية، فهي في طريقها إلى الزوال.
ثانياً، كان انهيار نظام الأسد كفيلاً بإضعاف “حزب الله”، فكيف إذا جرى تفكيك بنيته العسكرية بشكل مباشر، كما أكدت المتحدثة الأميركية السابقة مورغان أورتاغوس؟
ثالثاً، استمد “حزب الله” قوته من سيطرته على الحدود مع سوريا وإسرائيل. لكن بعد أن فقد هذا الموقع الاستراتيجي، بات سلاحه بلا وظيفة أو مبرّر.
رابعاً، السلطة التي نشأت في ظل الاحتلال السوري كانت تنفذ الأجندة السورية طوعاً أو كرهاً، أما اليوم، فالسلطة الجديدة المنبثقة من توازن فرضته الحربان الأخيرتان، لا هدف لها سوى تنفيذ الأجندة اللبنانية. وهذا ما لم يكن متاحاً حتى بعد خروج الجيش السوري بسبب استمرار سلاح “حزب الله”. واليوم، ولأول مرة منذ اغتيال الرئيس رينيه معوض، تصدر حكومة ببيان وزاري ينص صراحة على حصرية السلاح بيد الدولة وبسط سيادتها على كامل الأراضي.
خامساً، لم يتوقف “حزب الله” عن الأعمال العسكرية التزاماً باتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني، بل لأنه بات عاجزاً عن الاستمرار بها، وخوفاً من انعكاسها السلبي على تنظيمه وبيئته. فقد دأب الحزب على خرق الدستور والقرارات الدولية وإطلاق الحروب دون العودة لأحد. لكن ما جعله يتراجع هذه المرة هو ميزان القوى لا أكثر، مما يعني أن التزامه ليس عن قناعة بل عن اضطرار.
سادساً، راهن الحزب على إعادة فتح ملف سلاحه في طاولة الحوار الوطني، معتقداً أن انسحابه من جنوب الليطاني يكفي لإرضاء أميركا وإسرائيل مع الاحتفاظ بسلاحه شمالاً. لكن مجرد فتح الحوار حول السلاح يعطيه شرعية للاستمرار. هذا الطرح أُحبط عندما أعلن رئيس الجمهورية بدء حوار ثنائي مع الحزب حول حصرية السلاح بيد الدولة، وهو حوار جدي لا هدفه التمييع، بل التنفيذ الفعلي للدستور والقرارات الدولية.
سابعاً، استطاعت السلطة الجديدة خلال فترة وجيزة ملء الفراغات العسكرية والأمنية والمالية، وبدأت بتنشيط عمل الحكومة على مختلف المستويات، وإعادة وصل العلاقة مع الشرعيتين العربية والدولية، وترتيب العلاقة مع سوريا الجديدة برعاية سعودية.
لذلك، فإن الاعتقاد بأن لا شيء تغير منذ انتخاب الرئيس جوزاف عون وتكليف الرئيس نواف سلام هو انطباع غير دقيق. قد تبدو المعركة حول السلاح كما هي في الظاهر، لكن الواقع مختلف كلياً، سواء في لبنان، أو في الإقليم، أو في محور الممانعة الذي تفكك، أو في واقع “حزب الله” الذي بات محاصراً ومفككاً. في المقابل، تمضي الدولة في التمدد بخطى واثقة، نحو استعادة سيادتها الكاملة.
المصدر:شارل جبّور
نداء الوطن