
من الضروري التمييز بوضوح بين مفهومي “التحييد” و”الحياد” عند الحديث عن موقف أي دولة تسعى للحفاظ على مسافة آمنة من الصراعات والمحاور الإقليمية والدولية. فالفرق بينهما ليس فقط في المعنى السياسي، بل أيضاً في التفسير القانوني. وفي ظل الأوضاع المتقلبة التي يشهدها لبنان والمنطقة، يجد البلد نفسه أمام خيار حاسم: إما الاستمرار في الارتهان لمحاور خارجية، أو السعي نحو استقلالية القرار الوطني لحماية السلم الأهلي والاستقرار.
وفي هذا السياق، تبرز دعوة البطريرك الماروني إلى “الحياد الإيجابي والناشط”، والتي، رغم نواياها الإيجابية، أثارت جدلاً واسعاً داخلياً وخارجياً، خاصة في ظل فتور الفاتيكان تجاه هذا الطرح، نتيجة اعتباره أن الحياد وفق المفهوم الدولي يتطلب موقفاً موثقاً ومكرّساً من الأمم المتحدة، وهو أمر يحتاج إلى توافق دولي وظروف دقيقة.
من جهة أخرى، يشير المحامي ميشال إقليمي، وهو من الفريق الذي عمل على “إعلان بعبدا” في عهد الرئيس ميشال سليمان، إلى أن “التحييد” يُعد خياراً سيادياً لبنانياً، توافق عليه الفرقاء السياسيون في جلسة الحوار بتاريخ 11 حزيران 2012، وينص على إبقاء لبنان خارج الصراعات الإقليمية والدولية. وقد ورد ذلك صراحة في البند 12 من الإعلان، الذي سُجّل لاحقاً كوثيقة رسمية في الأمم المتحدة وحظي بتأييد دولي وعربي.
لكن اللافت أن “حزب الله”، رغم موافقته المبدئية على إعلان بعبدا، تراجع عنه لاحقاً، متورطاً في الحرب السورية، في خرق واضح لمبدأ “النأي بالنفس”، مما زاد من تعقيد الوضع الداخلي اللبناني وأضعف السيادة الوطنية.
لذلك، هناك حاجة ماسة لإعادة إحياء مبدأ التحييد كخيار وطني جامع يحظى بغطاء دستوري وميثاقي، ويعزز سيادة الدولة وسلطتها الحصرية على السلاح، ويفتح الباب أمام معالجة الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بهدوء ومن دون ضغوط.
أما في ما يتعلق بحصرية السلاح، فهناك إشارات إلى تقدم تدريجي في هذا المسار، وإن كان بطيئاً. فالمفاوضات الأميركية الإيرانية، رغم تركيزها على الملف النووي، لا تغفل مسألة الميليشيات التابعة لطهران، ويبدو أن القرار الإقليمي يسير باتجاه تقليص نفوذ هذه الأذرع، بما فيها “حزب الله”، وتكريس سيادة الدول على أراضيها.
وفي اليمن، تتعزز التقديرات بشأن عملية مرتقبة للجيش الشرعي ضد الحوثيين بهدف تقليص نفوذهم، وهو ما يندرج ضمن السياق الإقليمي ذاته الهادف إلى كبح الأذرع المسلحة غير الرسمية.
الرهان اليوم يبقى على الدولة اللبنانية: على مؤسساتها أن تتحرك بثقة أكبر، وأن تطبّق القانون والدستور بفعالية وعدالة، بعيداً عن الاستنسابية والتصفية، بما يعيد للدولة هيبتها وقرارها الحر، ويضع لبنان على طريق التعافي والاستقرار الحقيقي.
المصدر:أنطوان مراد
نداء الوطن