في المشهدية السياسية والمدنية للانتخابات البلدية في طرابلس

بقلم د. طلال خواجة- ديموقراطيا نيوز

رغم القلة النسبية المتابعة لمقالاتي و التي كنت اساهم فيها في صفحة القضايا في جريدة النهار بصفة شهرية تقريبًا منذ عقود، واحد اسباب هذه القلة انني ما زلت الجأ للمقال الطويل، حاملا ارثه معي من مرحلة العمل الثوري الرومانسي التي طواها القرن الماضي، فقد انعشني تساؤل البعض من هذه القلة عن تأخري في الكتابة رغم وفرة و حماوة المواضيع والقضايا التي لطالما شكلت محور اهتمامات معظم اللبنانيين، ومنهم اهلنا في عموم الشمال و في عاصمته الايقونة الطرابلسية كما اطلق عليها خلال انتفاضة الغضب التشريني.
لا اخفي تأثري باختفاء صفحة القضايا في الحلة الجديدة لجريدة النهار، رغم أن موقع الجريدة الالكتروني ومواقع شمالية ولبنانية و عربية و دولية كثيرة تقوم بدور اعلامي كبير ومتنوع. فانا انتمي لجيل الجريدة والكتاب والحوار وفنجان القهوة في المقاهي و المكتبات و المؤسسات الثقافية في المدينة التي كانت تقتات ثقافة وتتغرغر بالسياسة و تتفاخر بالعروبة.
و لطالما تأثرت بالمقاومة الثقافية والمدنية التي يبديها الطرابلسيون في محطات رئيسية من تاريخ المدينة، رغم الصورة النمطية التي انطبعت عنها في أذهان الكثيرين والتي يغذيها واقع اقتصادي و اجتماعي و سياسي متدهور، يجعلها تبدو وكأنها مكسر عصا حينا وساحة لتوجيه الرسائل احيانا، ومكانا للانتهاكات و الحوادث والفوضى في معظم الأحيان.
وهذ ما جعل المدينة القلقة تبدو وكأنها تجمع الشيء ونقيضه في آن، فهي ايقونة الانتفاضة التشرينية وساحاتها جذبت المنتفضين الشباب والنخب المدنية من جميع انحاء لبنان، و هي الخاصرة الرخوة التي سهل اختراقها و تخريب انتفاضتها بمشاهد مخزية كحرق البلدية والبنوك ومحاولة احراق السراي امام اعين القوى الامنية و بشبه طناش و جبن من فعالياتها السياسية والبلدية.

و طرابلس التي شكّلت رأس حربة الانتفاضة السيادية في اعقاب زلزال اغتيال رفيق الحريري، بمقاومة مدنية زاوجت بين الوان الريشة و بين شلال التظاهر، جرى زجها بمواجهات دموية بين الاهل في التبانة و القبة و بعل محسن. وقائمة المفارقات والاشكاليات تطول بينما تدفع المدينة المظلومة من كيس ابنائها اثمانا مضاعفة، رغم انها تمتلك ميزات تفاضلية في الموقع وفي التراث وفي التاريخ وفي المرافق وفي شرائحها المتعلمة و في غنى نسيجها، تجعلها مهيأة لتكون عاصمة اقتصادية للبنان، كما يمكن ان تكون حاضرة ثقافية أيضًا، لما لأهلها من عشق للعلم و الثقافة، ضارب في اطناب التاريخ. وقد نشر دار جروس مؤخرًا كتابًا بعنوان: طرابلس حاضنة الثقافة في كل الازمان يلقي الضوء على بعض غناها الثقافي.

و قال في طرابلس ابو الطيب المتنبي:
أكارم حسد الارض السماء بهم/ و قصرت كل مصر عن طرابلس.
و رغم تقديرنا لكل من ساهم في نشاطات طرابلس عاصمة للثقافة العربية سنة ٢٠٢٤، الا أن هذه النشاطات لم تنجح في التقاط روح المدينة و نبضها الثقافي و ارثها الحضاري ونفسها المديني الذي بات يخنقه غبار الاهمال و التخريب و الانتهاك الذي يشترك فيه كثر، بما فيهم الكثير ممن تبوأ اعلى المناصب الحكومية والبرلمانية والادارية و البلدية.
واذ استذكر ما قاله في المدينة نزار قباني حين وصفها بقارورة الطيب، وانا انتمي لجيل شاهد على بعض هذا الطيب، اتطلع لحالتها البيئية والاجتماعية التي تراجعت بشكل كارثي، رغم الافكار والمبادرات والجهود التي لا تتوقف من مجتمع مدني وأكاديمي لطالما اتسم بالحيوية، ولكن لطالما عانى من بعض الشخصانية و من ضعف التنسيق والتركيز والمتابعة، خصوصًا مع الجهات والقيادات المسؤولة والتي لم تكن بالاجمال على قدر المسؤولية وقصرت عن حماية مصالح المدينة الصابرة التي دفعت و ما تزال تدفع من اللحم الحي اثمان قربها من الفوالق السياسية المتحركة.
و مع ان هناك فرصة لأهل المدينة العريقة لايصال مجلس بلدي يواكب التحول الاجمالي الذي يمر به الوطن الصغير، لجهة لملمة الاشلاء المبعثرة للدولة المنكوبة و تطبيق الدستور والقوانين، خصوصًا بعد ان استدرج “حزب الله” الوحش الاسرائيلي الفالت من عقاله بإسناده الفارغ لغزة، الا أن هذه الفرصة لم تلتقط كما يجب على ما يبدو، رغم أهمية المجلس البلدي في حياة المدينة وفي استعادة دورها وفي لملمة جراحها وفي وقف تدهورها البيئي و التنموي والخدماتي والاجتماعي والحضاري، وفي اعادة وصل احيائها المبعثرة التي تبدو وكأنها من مدن مختلفة، تمهيدًا لإعادة بعث دورها الأشمل كجاذبة ليس فقط لعائلتها الشمالية المتنوعة بل لعموم الوطن الذي لطالما دافعت عنه وعن وحدته وتنوعه وعروبته في أصعب الظروف.
هذا لا يعني بأننا نشكك بالمرشحات والمرشحين و كفاءة الكثيرين منهم ساطعة كالشمس، بل بالعكس فاننا نخاف ان نرى هذه الكفاءات تطيش بسبب عدم ادراك طبيعة المرحلة و بعدم تعيين عنوان للمعركة البلدية في الوقت الذي نرى فيه بعض الامل في معركة استعادة الدولة ودستورها و سيادتها و احتكارها للسلاح بكل انواعه بما فيها السلاح الفردي المعادي لثقافة المواطنة الذي تعاني منه فيحاؤنا الحبيبة( مع المعذرة من السيد رئيس الجمهورية الذي نحترم مكانته و نقدر دوره عاليًا).
ولطالما رفع المجتمع المدني شعار “طرابلس مدينة خالية من السلاح والمسلحين”، علمًا أن معظم المسلحين، فضلا عن مافيا المولدات و منتهكي المدينة محميون أو على الاقل مسكوت عنهم من السياسيين وأصحاب القرار والشأن.
و يبدو من الأداء الذي نشهده ان معظم نواب و فعاليات المدينة السياسية لا تفضل مجلسًا نيابيًا قويًا ومتمكنًا و حرًا و سيدًا، لذا نلاحظ ان معظمهم يبدو بلا ملامح واضحة وكأن السياسة قد تبخرت في المدينة وحلّت محلّها وشوشات الضيعة، إذ العين على الانتخابات النيابية. أما العمل السياسي الحزبي الديمقراطي العابر للطوائف و المناطق فلم يتجدد و يتبلور في المدينة بعد رغم حيوية المشهد الثقافي والمدني فيها.
و هناك حذر من أن يؤدي هذا المشهد الانتخابي كما في حالات سابقة الى عدم انعكاس جمالية النسيج الاجتماعي في المجلس البلدي، مما يضعف من قوته التمثيلية ويساهم في تهميش دور المدينة و صورتها في مرحلة بالغة الاهمية من تاريخ البلد والمنطقة.
هناك رغبة حكومية واضحة وملموسة بدعم مرافق طرابلس والشمال عمومًا، لتلعب دورًا تنمويًا رئيسيًا في البلد وفي المنطقة. فقد بدأنا نرى جدية في الاعداد لتشغيل مطار رينيه معوض في القليعات و علينا العمل لتتمدد الجدية لتفعيل معرض رشيد كرامي الدولي وتطوير مرفأ طرابلس واستكمال المدينة الجامعية في المون ميشال وربما عودة وتشغيل المصفاة بعد دراسة الجدوى مع الشقيق العراقي و القائمة تطول واولها تغيير المحافظ و تعيينات امنية تواكب العقل الاصلاحي.
واذا لم نصل لمجلس بلدي قوي و بهوية اصلاحية و واضحة في العمل البلدي و برؤية وطنية وتنموية موحدة تلاقي التوجه الحكومي الاصلاحي و تتناغم مع باقي عناصر القوة الطرابلسية والشمالية، وهو ما يبدو صعب المنال، ربما تتكرر التنازعات و تتوسع شبكة المصالح الفاسدة والتدخلات السياسية فيتفرق العشاق وتتابع المدينة تراجعها التنموي والحضاري و تتكاثر فيها الامراض والآفات الاجتماعية، خصوصًا في أحيائها الضعيفة والمهمشة التي تعاني من شبه انهيار صحي و بيئي و تربوي مع تدهور كارثي في التعليم الرسمي و تضاؤل في فرص العمل وتآكل في بناها الاجتماعية مما يحولها فريسة سهلة للذئاب السياسية و القوى الظلامية.

في هذه المشهدية الرمادية التي تميل للقتامة، ننظر للجانب الملآن من الكوب و المتمثل بوفرة المرشحات والمرشحين ذوي الكفاءة والاختصاص، و الأمل ان يتحفز اهل المدينة على تشكيل لوائحهم الخاصة بعد ان عجز المجتمع السياسي والمدني بما فيها التغييري عن تظهير نبض طرابلس و الاطار السياسي العام الذي تجري فيه المعركة الانتخابية. و من يدري رب ضارة نافعة.

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top