
بقلم ندى جوني
لأكثر من سبعة عقود، ظلّت المملكة العربية السعودية دولة محافظة تستمد هويتها من التقاليد الدينية والإجتماعية الصارمة، وتعتمد في اقتصادها بشكل شبه كامل على عائدات النفط. كانت الحياة العامة محكومة بمعايير مغلقة، فُرضت قيود شديدة، مغيبة مظاهر الترفيه والثقافة المعاصرة عن الفضاء العام. وعلى الصعيد السياسي، اتسمت السعودية بالإنغلاق، مع حضور ثقيل للمؤسسات الدينية في صناعة القرار، وشبه غياب للخطاب الإصلاحي الحديث.
لكن هذا المشهد بدأ يتغير جذرياً مع صعود الأمير محمد بن سلمان إلى منصب ولي العهد عام 2017. لم يكن وصوله مجرّد تبديل في مواقع السلطة، بل لحظة فاصلة دشنت مرحلة جديدة من تاريخ المملكة، تقوم على إعادة بناء الدولة وفق رؤية مستقبلية تُعرف بـ”رؤية 2030″، وتسعى إلى تحويل السعودية إلى قوة اقتصادية إقليمية ومركز ثقافي واجتماعي منفتح على العالم.
إذاً، كيف تمكن محمد بن سلمان من إعادة رسم ملامح المملكة العربية السعودية، وقيادة تحولات جذرية طالت اقتصادها ومجتمعها وسياساتها الداخلية والخارجية، واضعاً بلاده على مسار غير مسبوق في تاريخها الحديث؟
التحول الإقتصادي: من اقتصاد ريعي إلى رؤية طموحة
منذ توليه رئاسة مجلس الشؤون الإقتصادية والتنمية في عام 2015، ثم تعيينه رئيساً للمجلس الأعلى لشركة ” أرامكو “، بدأ الأمير محمد بن سلمان بوضع اللبنات الأولى لتحول اقتصادي شامل في المملكة العربية السعودية. فمع اعتماد البلاد لعقود طويلة على الإيرادات النفطية، والتي شكّلت النسبة الكبرى من الناتج المحلي الإجمالي وميزانية الدولة، كان من الضروري البحث عن بدائل تضمن استدامة النمو الإقتصادي وتقلل من هشاشته أمام تقلبات الأسواق العالمية.
جاء إعلان رؤية السعودية 2030 ليؤسس لمرحلة جديدة من السياسات التنموية، تقوم على مبدأ تنويع مصادر الدخل، وخلق اقتصاد أكثر مرونة وحداثة. وقد شهدت البلاد تحولات لافتة في مؤشرات الاقتصاد الكلي، حيث تجاوز الناتج المحلي الإجمالي حاجز التريليون دولار بحلول نهاية عام 2022، مقارنةً بنحو 670 مليار دولار في عام 2015. كما ارتفعت حصة الأنشطة غير البترولية لتشكّل حوالي نصف الناتج المحلي، وهي دلالة على نجاح جزئي في تقليص الاعتماد على النفط.
اقتصادياً، تشهد السعودية واحدة من أسرع معدلات النمو بين دول مجموعة العشرين، إذ تشير التقديرات إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 2.6% في عام 2024 و5.9% في عام 2025، في ظل سياسات مالية توسعية ومشاريع ضخمة تعزز البنية التحتية والاستثمار. وفي موازاة ذلك، حافظت المملكة على معدل تضخم منخفض نسبياً بلغ 1.6% في مايو 2024، رغم ارتفاع التضخم عالمياً.
أما في مجال المنافسة العالمية، فقد قفزت السعودية من المرتبة 25 عالمياً في عام 2016 إلى المرتبة 16 حالياً في تقرير معهد التنمية الإدارية السويسري، ما يعكس تحسن بيئة الأعمال وتسهيل الإجراءات أمام المستثمرين المحليين والأجانب.
كما أن السياحة التي كانت قطاعاً هامشياً لعقود، أصبحت اليوم من الركائز الأساسية للرؤية الجديدة، إذ استثمرت المملكة ما يقارب 800 مليار دولار في هذا القطاع، مستهدفة الوصول إلى 150 مليون زائر بحلول عام 2030. وقد حققت هدفها الأولي باستقطاب 100 مليون زائر قبل الموعد المحدد، ما يعكس تحولاً حقيقياً في النظرة إلى هذا القطاع الحيوي.
ولعل أبرز ما يميز المرحلة الإقتصادية الجديدة هو إطلاق مجموعة من المشاريع العملاقة مثل نيوم، البحر الأحمر، القدية، المربع، ومطار الملك سلمان، التي لا تُعد مجرد مخططات إنشائية، بل أدوات استراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الإقتصادي والإجتماعي للمملكة، وتحويلها إلى مركز عالمي في مجالات الابتكار والسياحة والخدمات.
في المجمل، لم يعد الإقتصاد السعودي رهينة للنفط كما كان في السابق، بل أصبح يتجه بثبات نحو التنويع، مدفوعاً برؤية طموحة وسياسات استثمارية ذكية، جعلت من المملكة فاعلاً اقتصادياً صاعداً على الساحة الدولية.
السعودية الجديدة: انفتاح اجتماعي وثقافي يعيد تشكيل الهوية
لسنوات طويلة، ارتبطت الصورة الذهنية عن المملكة العربية السعودية بنمط اجتماعي محافظ ومغلق، كانت فيه القوانين والممارسات اليومية تخضع لتفسيرات صارمة للتقاليد والدين، وهو ما انعكس على دور المرأة، والحياة العامة، والأنشطة الثقافية والفنية. لكن منذ صعود محمد بن سلمان، بدأت المملكة تتجه نحو تحديث ملموس في بنيتها الإجتماعية والثقافية، في محاولة لإعادة تشكيل علاقتها مع المجتمع، وفتح آفاق جديدة أمام الأفراد، لا سيما الشباب والنساء.
من أبرز ملامح هذا التحول، رفع القيود عن مشاركة النساء في الحياة العامة. فقد تم السماح لهن بقيادة السيارة، والإلتحاق بالقطاعات العسكرية، والسفر دون إذن ولي أمر، والعمل في مجالات كانت مغلقة أمامهن سابقًا. وبات للمرأة حضور أكبر في القطاعين العام والخاص، كما شغلت مناصب قيادية ومراكز صنع قرار، وهو ما ساهم في تعزيز تمثيلها ومشاركتها الفعلية في مسيرة التنمية.
وعلى مستوى الحياة الثقافية، بدأت السعودية بالخروج من دائرة التحفّظ والإنغلاق، لتحتضن فعاليات غير مسبوقة، مثل الحفلات الموسيقية، والمعارض الفنية، والعروض المسرحية والسينمائية. كما أُعيد افتتاح دور السينما بعد حظر دام لعقود، وأُطلقت مبادرات لدعم المواهب الفنية، والإنتاج الدرامي، وصناعة الأفلام.
واستكمالًا لهذه التوجهات، أنشأت المملكة هيئة للترفيه، وعملت على تنظيم مهرجانات كبرى مثل “موسم الرياض” و”موسم جدة”، اللذين جمعا فنانين من مختلف أنحاء العالم، وجذبا ملايين الزوار من الداخل والخارج. لم تكن هذه الأحداث مجرد نشاطات ترفيهية، بل حملت في طياتها رسالة واضحة: السعودية تسعى لتكون بيئة منفتحة، تنبذ الجمود الثقافي، وتحتضن التنوع.
هذا التحول الاجتماعي والثقافي لم يخلُ من التحديات، فقد واجه مقاومة من بعض الفئات المحافظة، لكنه في الوقت نفسه لاقى ترحيباً واسعاً من الأجيال الشابة، التي شكّلت القوة الدافعة خلف أغلب هذه التغييرات. ومع مضي المملكة في تنفيذ رؤيتها، يبدو أن هذا المسار يتجه نحو ترسيخ أنماط اجتماعية جديدة، أكثر انفتاحًا وتنوعًا، تتماشى مع طموحات مجتمع متجدد.
التحولات السياسية في السعودية: بين الإصلاح الداخلي والدور الإقليمي المتصاعد
شهدت السعودية خلال عهد محمد بن سلمان تحولاً عميقاً في طبيعة الحكم والسياسات الداخلية. مع تمركز السلطة بشكل أكبر في يد ولي العهد، انطلقت سلسلة من الإصلاحات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي هدفت إلى تحديث الدولة وتعزيز استقرارها. من أبرز تلك المتغيرات كانت حملة مكافحة الفساد التي طالت عدداً من كبار الأمراء ورجال الأعمال، وهي خطوة استثنائية في تاريخ المملكة تعكس إرادة الإصلاح ومحاربة الفساد الهيكلي. كما تم تعزيز دور المؤسسات الحكومية وتحسين آليات اتخاذ القرار، مع محاولة تفعيل دور الشباب والنساء في المجتمع، وإفساح المجال أمام مشاركة أوسع في الحياة العامة.
غير أن هذا التحول لم يكن خالياً من التحديات، إذ واجهت الحكومة مقاومة من بعض التيارات المحافظة التي اعتبرتها هذه الإصلاحات تجاوزاً للثوابت الاجتماعية والدينية. مما أدى إلى حالة من التوازن الدقيق بين المحافظة على الإستقرار السياسي والإجتماعي وبين دفع عجلة التغيير. في هذا الإطار، سعى محمد بن سلمان إلى فرض رؤية جديدة تعتمد على الاستقرار الأمني والسياسي، مع تخفيف الضغوط الاجتماعية بشكل مدروس.
على الصعيد الخارجي، اتسمت السياسة السعودية في عهد محمد بن سلمان بالجرأة والطموح لتعزيز مكانة المملكة كقوة إقليمية فاعلة، خاصة في مواجهة النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة. انخرطت السعودية بشكل مباشر في عدد من النزاعات الإقليمية، كان أبرزها تدخلها العسكري في اليمن لمواجهة الحوثيين المدعومين من إيران، ضمن مسعى لمنع انتشار النفوذ الإيراني على حدودها الجنوبية.
كما شهدت العلاقات السعودية مع الدول المجاورة تطورات معقدة؛ ففي مواجهة تحالفات متغيرة في الخليج، سعت السعودية لتعزيز شراكات استراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن تحالفات واسعة مع مصر، والأردن، ودول عربية أخرى لمواجهة التحديات الإقليمية المشتركة. في الوقت نفسه، شهدت العلاقات مع قطر فترة توتر طويلة انتهت في 2021 بعد المصالحة الخليجية، حيث نجحت المملكة في لعب دور الوساطة والتقريب بين الأطراف.
على المستوى الدولي، حرصت السعودية على تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، مستفيدة من موقعها الإقتصادي واستقرارها السياسي النسبي، في ظل محاولة لتحويل المملكة إلى مركز اقتصادي وثقافي عالمي وفق رؤية 2030. كما بدأ انفتاح متدرج على علاقات مع دول مثل روسيا والصين، في سياق تنويع الشراكات الإستراتيجية بعيداً عن الإعتماد الكلي على الغرب.
من ناحية أخرى، تبنى محمد بن سلمان نهجاً نشطاً على الساحة الدولية، مستخدماً الدبلوماسية الإقتصادية، ومبادرات التنمية، ومشاريع البنية التحتية الضخمة لجذب الإستثمارات وتعزيز النفوذ. في الوقت نفسه، سعت السعودية إلى لعب دور وسيط إقليمي في عدد من النزاعات، مع دعمها لمساعي التهدئة وحل الأزمات السياسية في عدة دول مجاورة.
زيارة ترامب الأخيرة… وتتويج السعودية كلاعب إقليمي مؤثّر
في مشهد يعكس تبدلاً جذريًا في خارطة النفوذ الإقليمي، وصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط في زيارة استثنائية الشهر الماضي، للمملكة العربية السعودية، قطر، والإمارات، حيث التقى كبار المسؤولين، وعلى رأسهم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
الزيارة، التي خُصصت في ظاهرها لبحث قضايا الاقتصاد والتجارة بين دول الخليج والولايات المتحدة الأميركية، حملت في طيّاتها دلالات استراتيجية عميقة، تتجاوز التعاون التجاري إلى إعادة رسم ميزان القوى في المنطقة.
إذ، تمثل الحدث الأبرز بإعلان ترامب رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، والتي استمرت لعقود وبلغت ذروتها خلال سنوات الحرب. لم يكن هذا القرار نابعاً من تغيير داخلي في واشنطن، بل جاء بطلب مباشر من محمد بن سلمان، في خطوة عكست مدى تصاعد النفوذ السعودي وقدرته على التأثير في قرارات السياسة الخارجية الأميركية. هذا التحول لم يكن ليحدث لولا جملة من التطورات المفصلية، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد بعد سنوات من الصراع، وتغير موازين القوى العسكرية.
في هذا السياق، أظهرت السعودية نفسها كفاعل إقليمي قادر على ملء الفراغ السياسي والأمني الناتج عن تراجع المحور الإيراني. فحرب غزة الأخيرة وما تبعها من تفكك في بنية المقاومة الفلسطينية، إلى جانب الضربات العسكرية التي أضعفت البنية التحتية لحزب الله في جنوب لبنان، كلها عوامل ساعدت السعودية على تحقيق هذا الطلب. بعبارة أخرى، لم تعد السعودية مجرد لاعب اقتصادي، بل باتت محوراً مركزياً في المعادلة الإقليمية، تحرّك خيوط السياسة من موقع القوة، وتطرح نفسها شريكاً نديًّا للولايات المتحدة في ملفات كبرى تتجاوز حدود الخليج.
هذا التحول في العلاقات الأميركية-السعودية، لا يعكس فقط براعة دبلوماسية من الجانب السعودي، بل أيضاً تغيراً في أولويات واشنطن، التي باتت تنظر إلى المملكة كقوة استقرار ونفوذ في منطقة تزداد اضطراباً. ومع تراجع أدوار قوى تقليدية وانهيار منظومات إقليمية، تتهيأ السعودية لقيادة مرحلة جديدة تُعيد رسم ملامح الشرق الأوسط سياسياً وأمنياً، من بوابة الشرعية الدولية والمصالح المشتركة مع الغرب.
لبنان على مفترق التحول: فرصة جديدة في ظل انفتاح سعودي مشروط
بعد سنوات من التوتر والقطيعة بين السعودية ولبنان نتيجة تصاعد نفوذ حزب الله وهيمنته على القرارين السياسي والإقتصادي، تشهد العلاقة اليوم تحوّلاً لافتاً، مدفوعاً بوصول العهد الجديد برئاسة جوزاف عون، ترافق مع انفتاح سعودي حذر.
ضمن الإطار المذكور، تسعى المملكة، التي لطالما لعبت دوراً أساسياً في دعم لبنان، إلى إعادة هذا البلد إلى الحاضنة العربية والإقليمية، من خلال خطوات رمزية وعملية، أبرزها رفع الحظر عن سفر المواطنين السعوديين إلى بيروت، وفتح الباب أمام إعادة تفعيل الإتفاقيات السابقة بين البلدين على المستويات كافة.
غير أن هذا الانفتاح لا يعني قبولاً غير مشروط، بل يُنتظر من لبنان أن يقابل اليد السعودية الممدودة بخطوات سيادية واضحة، وعلى رأسها حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية. فاستعادة الثقة الإقليمية، وعودة الإستثمارات الخليجية، واستكمال المصالحة مع المملكة، تتطلب من لبنان تحمّل مسؤولياته، والإلتحاق الجاد بمسار التحول العربي الذي تقوده السعودية، قبل أن يُفوّت مجدداً فرصة إنقاذ نفسه ويخسر دعماً حيوياً لا غنى عنه.