الأدوية المهرّبة والمزوّرة: فضيحة صحية تكشف عمق الانهيار اللبناني

لم تعد قضية الأدوية المهرّبة والمزوّرة في لبنان مجرّد أزمة صحية عابرة أو ملفاً قضائياً محدوداً، بل باتت مؤشراً صارخاً على تفكك المنظومة الرقابية والإدارية في البلاد، وسط حماية سياسية وأمنية لشبكات الاتجار غير المشروع بالموت، تحت مظلّة الإفلات من العقاب.

في ظلّ التدهور المتسارع في القطاعين الصحي والاقتصادي، تفجّرت واحدة من أخطر الفضائح المتعلّقة بالأمن الدوائي، بعد كشف شبكة منظّمة لتوزيع مستحضرات مزوّرة ومهرّبة، تورّط فيها مقربون من شخصيات سياسية بارزة، من بينهم محمد خليل، شقيق وزير المال السابق والنائب الحالي علي حسن خليل.

هذه الشبكة التي ظلّت لسنوات طيّ الكتمان، تحوّلت اليوم إلى قضية علنية تتداخل فيها المصالح السياسية والأمنية، من المطار إلى المعابر، ومن الوزارات إلى الصيدليات. ورغم أنّ التحقيقات لا تزال في مراحلها الأولى، إلا أن المعطيات تُشير إلى وجود منظومة متكاملة تشرعن التهريب تحت غطاء رسمي.

وفي صلب هذه القضية، تعود إلى الواجهة تعيينات مشبوهة، أبرزها إدخال محمد خليل إلى قوى الأمن الداخلي بمرسوم استثنائي، دون المرور بأي مباراة رسمية، خلال عهد الرئيس ميشال عون، في سياق تعيينات خضعت للمحاصصة السياسية والطائفية، ما أفسح المجال أمام الفساد للتغلغل في مؤسسات يُفترض أن تحمي الصحة العامة.

أدوية سرطان مزوّرة وشهادات مؤلمة من المرضى

وثائق التحقيق تكشف أنّ المستحضرات المهرّبة لم تكن تقتصر على أدوية عادية، بل شملت أدوية خطيرة لمعالجة السرطان، بيعت بأسعار باهظة رغم عدم مطابقتها للمواصفات أو افتقارها للمادة الفعالة. إحدى المريضات، فاديا المكاوي، روت كيف اشترت دواء لسرطان الثدي بـ900 دولار، ليتبيّن لاحقاً أنه غير صالح. شهادات مماثلة تكرّرت من مرضى تدهورت صحتهم جراء استخدام أدوية مزوّرة، وسط صمت رسمي وتراخٍ واضح في المساءلة.

رضا الموسوي: الوزارة ستتقدّم بادّعاء رسمي

مستشار وزير الصحة، رضا الموسوي، أكد لـ”نداء الوطن” أنّ الوزارة تتابع القضية قضائياً، وقال: “اتخذ الوزير قراراً باتخاذ صفة الادّعاء ضد كل من يثبت تورّطه، سواء في ملفات الدواء أو الاستشفاء، بانتظار نتائج التحقيقات النهائية”. وأضاف أن الرقابة ستتكثف في الفترة المقبلة، ولا تساهل مع من يتاجر بصحة المواطنين.

جو سلّوم: فوضى مقوننة تقضي على القطاع الدوائي

نقيب الصيادلة، جو سلّوم، حذّر من أن القطاع الدوائي في لبنان يعيش انهياراً منهجياً، بدأت فصوله بتهريب الأدوية المدعومة وتفاقمت مع إدخال أدوية مهرّبة ومزوّرة، بعضها دخل السوق عبر “الاستيراد الطارئ” بموافقة وزارية دون رقابة فعلية.

سلّوم أشار إلى أنّ النقابة أطلقت تحذيرات مبكرة منذ ثلاث سنوات، خصوصاً بشأن أدوية السرطان، لافتاً إلى أنّ هذا الوضع أفرغ الصيدليات الشرعية من الأدوية، ودفع المرضى إلى السوق السوداء، حيث تنشط مستودعات مخالفة ومنصات توزيع غير شرعية عبر الإنترنت.

ورأى أنّ غياب تطبيق مراسيم “الوكالة الوطنية للدواء”، المقرّة منذ عام 2021، زاد من حدة الأزمة، حيث كان يُفترض بها أن تنظّم تسجيل الأدوية وتضبط أسعارها وجودتها، إلا أنّ المشروع بقي حبراً على ورق.

كما لفت إلى دخول مستحضرات من دول مثل إيران تفتقر إلى شهادات مطابقة للمعايير الدولية، وتُوزّع على مرضى السرطان من دون ضمانات.

ثلث السوق خارج الرقابة… وشبكات محميّة تهدّد الأرواح

وفق نقابة مستوردي الأدوية، يُقدَّر حجم سوق الأدوية المهرّبة والمزوّرة في لبنان بما بين 150 و200 مليون دولار سنوياً، أي نحو ثلث السوق المحلي. أرقام تعكس عمق الخلل في الرقابة، في ظل انتشار شبكات تهريب تحظى بغطاء سياسي وأمني.

من أبرز هذه الشبكات ما يُعرف بـ”شبكة برمينا”، التي تضم أكثر من 70 صيدلية متورطة في تسويق أدوية مغشوشة، بينها مستحضرات لعلاج السرطان، تبيّن أنّ بعضها ليس سوى محلول ملحي. كما أدّت ظروف التخزين السيئة إلى فقدان فعالية الكثير من الأدوية.

رغم كشف العديد من هذه الحالات، لم تُتابَع قضائياً، ما يعكس غياب المحاسبة، ويُفاقم فقدان الثقة في القطاع الصحي. الحلّ، بحسب المختصين، يبدأ بضبط المعابر الحدودية والمطار، إلى جانب تحرّك حاسم من وزارة الصحة لإحالة الملفات إلى القضاء بالتعاون مع وزارة العدل.

هيلين شماس: الاستيراد الطارئ شرعن الفوضى والفساد

في حديث لـ”نداء الوطن”، اعتبرت الباحثة في السياسات الدوائية، د. هيلين شماس، أنّ الفوضى الحالية نتيجة تراكمات سابقة وقرارات سياسية غير مدروسة، أبرزها دعم الأدوية دون ضوابط، ما أدى إلى تهريبها، مقابل إدخال أدوية منتهية الصلاحية وغير فعالة.

وأشارت شماس إلى تسجيل أدوية إيرانية في عهد الوزير جميل جبق خلال فترة قياسية لا تتعدى شهرين، في تجاوز صارخ للمعايير الدولية. كما انتقدت قرارات وزير الصحة الأسبق حمد حسن المتعلقة بـ”الاستيراد الطارئ”، حيث خُفّضت المعايير تحت ذريعة النقص، ما فتح السوق أمام شركات مشبوهة على حساب شركات موثوقة.

وفي ما يخص نظام “MediTrack”، أشارت إلى ثغرات واضحة في تطبيقه، خاصة في طريقة توزيع الأدوية والمعايير الغامضة التي تحدّد الجهات المستفيدة.

وختمت بالقول إنّ الأزمة ليست فنية فقط، بل سياسية بامتياز، وتتطلّب خطة إنقاذ شاملة تُعيد تنظيم السوق وتستعيد ثقة المرضى والمؤسسات الطبية

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة: