بقلم تيريزا كرم
في ظل تعقيدات المشهد السياسي والاقتصادي في لبنان، يواجه البلد تحديًا حاسمًا قد يعمق من أزمته المالية ويعزل نظامه المصرفي عن الأسواق العالمية. تستعرض مجموعة العمل المالي (FATF) حاليًا مدى امتثال لبنان لمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وسط مخاوف جدية من إعادة إدراج البلاد على “القائمة الرمادية” في أكتوبر 2024. هذه الخطوة المحتملة، إن تمت، ستزيد من الضغط على المصارف اللبنانية التي تعاني أصلاً من تحديات كبيرة، وستفرض عليها متطلبات امتثال أشد صرامة من قبل البنوك المراسلة الأجنبية. يأتي هذا في وقت حرج، حيث يحاول لبنان، البلد الذي يعاني من صراعات طويلة الأمد وتدخلات خارجية وانقسامات طائفية عميقة، مواجهة تداعيات وضعه المالي المعقد والوفاء بالتزاماته الدولية.
ضمن هذا الإطار، وفي حديث خاص لموقع “ديمقراطيا نيوز”، يقول الدكتور باتريك مارديني، الخبير الاقتصادي والرئيس التنفيذي للمعهد اللبناني لدراسات السوق (LIMS)، إن الحكومة اللبنانية لم تقم بأي استعدادات فعلية لمواجهة التحديات المتعلقة بالامتثال لمعايير مجموعة العمل المالي (FATF). ويضيف أن الحكومة ألقت بمسؤولية هذا الملف على كاهل المصرف المركزي، مطالبة إياه بتحمل المسؤولية والعناية بالموضوع، رغم أن القصور يأتي أساسًا من القضاء اللبناني. ويوضح مارديني أن جزءًا كبيرًا من القضاة لا يتعاونون مع الجهات الخارجية في قضايا مثل تجميد الأصول والحجز على الأموال، مشيرًا إلى أن الحكومة اللبنانية ووزارة العدل لم تقوما بأي خطوات ملموسة في هذا الإطار.
ويشير مارديني إلى أن مشكلة الاعتماد على النقد في الاقتصاد اللبناني تعتبر تحديًا كبيرًا، حيث يجذب النقد الأشخاص ذوي النوايا السيئة في مجال غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ويتابع قائلاً: “في بلد لا يعتمد على النقد، يصبح من الصعب على هؤلاء الأشخاص القيام بأنشطتهم غير الشرعية. أما في لبنان، فإن الاعتماد على النقد يسهل عليهم تنفيذ أعمالهم من خلال الدفع نقدًا، مما يؤدي إلى مشاكل كبيرة في هذا المجال”. ويشدد على أن معالجة هذه المشكلة مرتبطة بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، إذ أن اللبنانيين لا يودعون أموالهم في المصارف اللبنانية بسبب الأزمة المصرفية المستمرة منذ عام 2019، ما يضعف الثقة في المصارف ويزيد من الاعتماد على النقد.
وحول تأثير إعادة إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، يقول مارديني أن ذلك سيؤدي إلى زيادة التدقيق من قبل المصارف المراسلة في كل عملية تحويل أموال من وإلى لبنان. هذا التدقيق الإضافي سيزيد من تكلفة العمليات المالية، مما سينعكس سلبًا على تكلفة الاستيراد والتصدير في لبنان. ويضيف: “سيواجه الأفراد الذين يعملون في مجال الاستيراد والتصدير صعوبات إضافية، حيث ستخضع كل عملية تحويل أموال للتدقيق، مما يزيد من كلفة التجارة الدولية في لبنان”.
أما بالنسبة لجذب الاستثمارات، يرى مارديني أن لبنان بحاجة ماسة لجذب الاستثمارات للخروج من أزمته الاقتصادية الحالية، إلا أن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية سيزيد من مخاوف المستثمرين والمغتربين من تحويل أموالهم إلى لبنان، خوفًا من التورط في شبهات غسل الأموال أو تمويل الإرهاب. هذا سيضعف من قدرة لبنان على جذب الاستثمارات الضرورية لإعادة إحياء اقتصاده.
وفيما يخص دور المؤسسات الدولية، يؤكد مارديني أن هذه المؤسسات، مثل صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأميركية، يمكنها دعم لبنان في تحقيق الامتثال المطلوب وتجنب الإدراج على اللائحة الرمادية، ولكن بشرط أن يقرر لبنان أن يساعد نفسه أولاً. ويوضح أن لبنان لم يتجاوب بعد مع الإصلاحات المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، والتي تشمل إصلاحات تهدف إلى إعادة إحياء الحركة الاقتصادية في لبنان وجعلها متوافقة مع المعايير الدولية في القطاع المالي.
ويختم قائلاً: “يقع على عاتق الحكومة اللبنانية مسؤولية المضي قدمًا في الإصلاحات التي التزمت بها أثناء الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي، وإلا فإن الاتفاق لن يدخل حيز التنفيذ”.
مع تزايد المخاطر والضغوط الدولية، يتعين على لبنان اتخاذ خطوات حاسمة وفورية لتحقيق الامتثال للمعايير الدولية. الفشل في ذلك سيضع البلاد أمام مستقبل اقتصادي أكثر صعوبة، وسيعقّد الجهود الرامية إلى إعادة بناء الثقة واستقطاب الاستثمارات التي تعد ضرورية لتعافي لبنان من أزمته الحالية. الكرة الآن في ملعب الحكومة اللبنانية، التي يجب أن تتصرف بسرعة وحزم لتجنب السيناريو الأسوأ.