الحريري بعد سنتين على تعليق عمله السياسي .. يومَ تبيضّ الوجوه ..

بقلم خالد صالح- ديمقراطيا نيوز

عندما أرسلت أميركا روّادها إلى القمر، كانت على يقينٍ تام من إمكانية إرسالهم، أكبر من يقينها من إعادتهم إلى الأرض، ومن شدّة حرصها على توضيح الصورة للشعب الأميركي في حال حدوث كارثة على القمر، تم مسبقًا تحضير كلمة للرئيس نيكسون لإطلاع الأميركيين على حقيقة الأمر ..
لم يكذب معدّو “الخطاب”، بل قالوا الحقيقة كما هي:
“سيحزنُ أصدقاؤهما وأفراد أسرتيهما، ستحزنُ بلادهما وسيحزنُ العالم عليهما، ستحزنُ الأرض التي أظهرت تحدّيًا وأرسلت اثنين من أولادها إلى المجهول، لقد أرادا من رحلتهما دفع شعوب العالم إلى الشعور بأنهم كيان واحد، من خلال تضحيتهما، أكدا على أخوة الانسان.
هذان الرجلان اللذان يتسمان بالشجاعة، “نيل ارمسترونغ” و “ادوين الدرين”، كانا يعرفان أنه لا أمل في عودتهما، لكنهما أيضًا كان يعلمان أن هناك أملٌ لدى البشرية وراء التضحية بهما، وسيتبع آخرون هذه الخطى، بالتأكيد سيعثرون على طريقهم، لن يخيبَ أمل بحث الإنسان، لكنهما روّاد، وسيظلان متربعان على عرش قلوبنا”.
قبل سنتين بالتمام والكمال، وقف الرئيس سعد الحريري أمام أهله وناسه وأمام اللبنانيين، بخطابٍ ظنّ البعض أنه “كُتِبَ على عَجل” من دون أيّ قراءةٍ عميقة للأحداث والتطورات، ومن دون أيّ استشراف للغد أو استشعار عن بعد لما هو آت، قال الحقيقة كما هي من دون أصباغٍ أو ألوان رمادية، لا أنصاف حلول، ولا مساومة على حياة اللبنانيين ومصير وطنهم، ولا إمكانية للتغيير في ظل التعقيدات الداخلية ورفض الأفرقاء التسليم بالحقائق لمصلحة البلاد، ورسم حينها خارطة الأزمة بكل وضوح، بدءًا من النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والانكفاء العربي إلى استعار المذهبية واهتراء الدولة.
لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود ؟ ..
تختزلُ السياسة في ثقافتنا العربية باختصارها بعبارة “فن الممكن”، وفي طيّاتِ هذا الاختزال يتمّ التعامل مع السياسة باعتبارها وسيلة لتبرير المواقف، أكثر من كونها مفهومًا للإدارة والحكم، لذلك بدلًا من أن تكون السياسة فنّ تدبير البلاد وإدارة شؤون العباد، تحوّلت إلى فنّ تبرير الاستيلاء على السلطة، وممارستها القمعية، وتبرير الولاءات الخارجية وشرعنتها.
أدرك الحريري أن السياسة تقترنُ بتحقيق المصالح العامة، لكنه اكتشف منذ أن وطأت قدماه وحول السياسة اللبنانية أنها مصلحة خاصة لمن يتولّى الحكم والسّلطة والنفوذ، قاوَمَ هذا النمط “البشع” منها لنحو عقد ونصف من الزمن، ولم يتواجد فيها على رأس السلطة إلا في حقبات قصيرة، وكانت هذه الفترة حبلى بالتناقضات والمتغيرات، لكنه كان يؤمن بشكلٍ قاطع أنها السبيلُ نحو بناءِ الدولة، وحماية سيادتها الوطنية، وحفظ أمن المجتمع، وتحقيق التنمية، وجميعُها تعبيرٌ عن المصلحة العامة التي يجتمعُ عليها رأي الناس، كلّ تلك المفاهيم نسمعها في الخطابات السياسية فقط، لكن لم تتجسّد يومًا في فعلٍ سياسيٍّ يُترجم إلى واقعٍ ملموس في مجالات حياتنا العامة.
آمن سعد الحريري بالرسالة التي تحملها الحريرية الوطنية، واختصرها بعبارتين “حماية السلم الأهلي من نيران الإحتراب الداخلي وتوفير حياة كريمة للبنانيين”، وإن كانت الحريرية قد نجحت في الأولى ودفعت في سبيلها باهظ الأثمان بدءًا بالدماء الزكية للرئيس الشهيد رفيق الحريري، إلا أن الثانية كانت دونها عقبات كثيرة، فالحريرية جاهدت كثيرًا في سبيلها على قاعدة مقولة الإمام جعفر الصادق: “الخير كل الخير في قضاء حوائج الناس”، ليكتشف سعد الحريري أن الشركاء في الوطن غايتهم الكبرى “القضاء على حوائج الناس”.
لم يقف الحريري خلف “الأوهام” أو خلفَ شعاراتٍ شعبوية رنّانة كان يُمكنه من خلالها أن يحصد تأييدًا شخصيًا على حساب وطنه، رغم الاستهداف السياسي الشرس الذي تعرّض له، سنتان كاملتان رأينا فيهما تهاوي الشعارات الفارغة التي أُسبلت على اللبنانيين وعودًا كـ “المنّ والسلوى”، لا بل انكشفت الادعاءات بسرعة قياسية أن الحلول ليست في انتخابات نيابية، لأنها في ظل التردّي القائم في البلاد ستفرز اصطفافات أشدّ “حدة” وتضع لبنان في مهبّ صراعات شخصية، ثنائية من هنا وثلاثية من هناك، لذلك اختار النأي بنفسه وبتياره عن وحول “سياسة عقيمة” لن تبدّل في المشهد القاتم قيد أنملة.
أيقن الحريري أن بعض السّاسة في لبنان لا يفقهون من السياسة إلا ما عبّر عنه ميكيافيللي بمقولة “الغاية تبرر الوسيلة”، لم يهتمّوا بتحذيراته ونصائحه عن الضرر المميت الذي يلحق بالدولة لاسيما عندما ترهن إرادتها لمصالح وأطماع شخصية، أو لأجندات خارجية، بل جُلّ ما يُفكّرون به هو الحصول على كتل “إسمنتية” يعتبرونها “منطقة خضراء” يتحصّنون بها، من دون أن يُعيروا إهتمامًا لما قد يُعرّضُهم لكراهية الشعب ونقمته الكبيرة.
سنتان بالتمام والكمال، كان الحريري مالىء الدنيا وشاغل الناس، الجميع يتتبع أخباره الكبيرة والصغيرة، ويلاحقون صفحاته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، و.. شائعات “ع مد عينك والنظر”، لكن هل فكّر الساسة يومًا في مضمون “خطاب التعليق”؟ .. هل وضعوا ما تضمنه من “أسباب جوهرية” على طاولة البحث والنقاش في محاولة منهم لبلورة حلول جذرية للواقع اللبناني المتردّي؟.
يختزل ساستنا “الأشاوس” فهمهم للعمل السياسي، باعتباره فنّ لتبرير أفعالهم المتناقضة، وأن بإمكانهم من خلال شعاراتهم التي يصدحون بها في برامج “التوك شو” ومن خلال تصريحاتهم الإعلامية وخطاباتهم المحشوة “شعبوية”حتى التخمة، أن يعالجوا أزماتنا ويضعوا المسارات اللازمة للخروج منها، فإذ بهم يتناقضون في مواقفهم بشكل فاضح، نتيجة عدم شفافيتهم ومصداقيتهم، فوقعت “الكارثة” ولم يجهد معدو خطاباتهم لنقل الصورة كما هي لكل اللبنانيين.
قرأ الحريري في 24 كانون الثاني 2022 كلمته “المعجونة” بخميرة الصدق والوضوح، وكاشف اللبنانيين بأن معيار تحقيق المصالح الخاصة للبعض لا ينطبق على تقييم المواقف وتبريرها، فما هو حقّ وشرعي لهم، باطل وغير شرعي لخصومِهم، ويتهمون الآخرين بأمورٍ سُرعان ما يمارسونها بلا أيّ إلتفاتة لماضيهم القريب، وترى حُزمة الاتهامات تلك تطوي أوراقها وتُركن على رفّ النسيان، متى وصلوا إلى أيّ نوع من الاتفاقات، ومبرراتهم جاهزة دائمًا عندما تسأل عن هذا التناقض : إنها السياسة !!.
رفضَ الرئيس سعد الحريري الخوضَ مجددًا في تجارب لن تقدّمَ أو تؤخر ولا تقيم اعتبارًا لأيّ قيم أو مبادىء، ونتائجُها ستكونُ “نسخة طبق الأصل” عن معاناةٍ عايشناها لعقدٍ ونصف، ورفضَ الانصياع خلف سياسات تبحثُ عن تحقيقِ مصالحَ خاصة، لأنّه أدرك أن مأساتنا مع مجموعة من السياسيين الذين أصبحت وظيفتهم ممارسة التناقضات بالشكل والمضمون، فقط لتبرير التقلبات السياسية والازدواجية بالمواقف، علّق عمله إراديًا في السياسة التقليدية بعدما تأكّد أن أيّ تغيير لن يحصل مادام الأداء محكومًا بالنزعة السلطوية ذاتها التي أوصلت البلاد إلى “جهنم”، لأن تكرار أمر محسومة نتائجه السلبية هو ضرب من الجنون.
بعد سنتين كاملتين، لم تزل ارتدادات هذا الموقف الوطني الكبير هي المُسيطرة، ولم يستطع أحدٌ من تجاوزها، لأنّ سعد الحريري وما يمثله وطنيًا وشعبيًا وشخصيًا، حالة عصيّة على التكرار، ودائمًا القادة الكبار يقف التاريخ أمامهم ليدوّن مواقفهم بأحرفٍ من ذهب.

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top