بقلم جوزاف وهبه
ولو متأخّراً، حسناً فعل وزير الداخليّة والبلديّات بسّام مولوي في إطلاق ما أسماه “الخطّة الأمنيّة” لمدينة طرابلس، علّ الدوريات والحواجز الليلية والنهارية تُنقذ العشر الأخير من شهر رمضان المبارك، بعد أن استفحل الفلتان الأمني بشكل غير مسبوق وفاقع:إشتباكات دوّارة من منطقة لأخرى، سقوط قتلى وجرحى كما في البدّاوي، عمليات سلب وتشليح خاصة لعاملي الدليفري، إضافة إلى رصاص جوّال دون معرفة الأسباب الموجبة!
ولكنّ ذلك لا يكفي.فالوضع المستتر في المدينة أشدّ خطورة من إشتباك عائلي هنا، وخلاف على المرور هناك، وحوادث فرديّة متفرّقة غالباً ما تكون نتيجتها إصابات من المارّة أو خسائر في السيارات وواجهات المحلّات.
الوضع أشدّ خطورة لأنّ هناك تكوّناً لأنواع مختلفة من مافيات الشوارع، تتوزّع بين ذوي نفوذ كبير كأصحاب المولّدات، وبين شبّيحة صغار يتقاسمون المناطق والحارات فارضين على مَن يرون فيه ضعفاً نوعاً من الخوّات الصغيرة والكبيرة، حسب تقديرهم لقدرة المستهدَف على الدفع.
أصحاب المولّدات باتت قصّتهم مكشوفة، وعلى كلّ لسان وشفة، بأنّهم محميّون من بعض الأجهزة الأمنية ومن رؤوس السلطة المدنيّة، حيث يتشاركون في التوظيفات وفي الإعفاء من دفع الإشتراكات الشهرية لكلّ من “صاحب النفوذ وأهله وأصدقائه المقرّبين”.
بمعنى أنّ هؤلاء يحصلون على ما يريدون مقابل تغطيتهم للميليشيا التي أنشأتها طبقة الموتيرات الجديدة ما يساعدها على تجاوز قرارات وزارة الإقتصاد، وعلى لجم بالقوّة والترهيب أيّ اعتراض لدى المواطنين، كما يساعدها على احتكار المهنة وتثبيت الكلفة العالية (150 دولار مقابل 5 أمبير) حسب ما حصل في المعركة المحدودة التي دارت في التربيعة بين مالك قديم لمولّدات المنطقة، وبين مستثمر جديد يريد أن يدخل منافساً على السوق!..
وعلى أطراف هذه الطبقة المافياوية، باتت تتفرّع مجموعات من “قبضايات الشوارع”، وهم عادة على علاقة مباشرة بالأجهزة الأمنية، وقد باتوا يستغلّون سطوتهم في عدّة أوجه خطيرة جدّاً كونهم يستفردون المواطنين الذين لا يعرفون إلى مَن يلجأون:
-هناك فئة مختصّة بشراء أسهم من بعض الملّاكين في محلات (في سوق القمح وأسواق تجاريّة أخرى) تخضع لقانون الإيجارات القديم، ويأتون الى المستأجر ليخيّروه بين أن يعطوه خلوّاً، هم يحدّدون قيمته (أسعار زهيدة) وبين أن يشتري منهم الأسهم بأسعار مرتفعة..وإلّا؟
-هناك فئة أخرى تريد أن تحصل على “خوّات” شهرية من بعض المحلات، أو أن يستدينوا منهم أثمان الحلويات والمأكولات والملبوسات (أي أن يتحلّوا ويأكلوا ويلبسوا من دون تسديد الفواتير..)..وإلّا؟
-وثمّة فئة ثالثة تسطو على الطرقات في الشوارع التي تشهد حركة واسعة بأن يضعوا كراسٍ أو حجارة وصناديق من خشب، وكلّ مواطن أو سائق يريد أن يوقف سيارته عليه أن يدفع بدل ذلك، خاصة في ظلّ ندرة المواقف العمومية..وإلّا؟
“وإلّا” يا معالي الوزير مولوي (والكلام موجّه أيضاً لكلّ النواب والسياسيين والأمنيين الحريصين على المدينة) هي التي تفسّر الرصاص الليلي كلّ يوم على واجهات المحلات، وهي خالية من أصحابها، وذلك إذا ما امتنعوا عن دفع الخوّة الشهرية، كما حصل في ساحة النور وفي الزاهرية وشارع النقابة، أو إذا ما تمنّعوا عن البيع بالدين (وهو دين بالطبع لن يُسدّد) كما حصل في شارع نديم الجسر وفي شوارع أخرى!
حسناً فعل وزير الداخلية، وحسناً تفعل قيادة الجيش، ولكنّ ذلك لا يعالج جذر الإشكالية التي تكمن في نشوء طبقة واسعة من الشبّيحة والقبضايات باتت تعبث بأمن وأمان المدينة وإقتصادها..والأجهزة بالتأكيد تعرفهم واحداً واحداً، وما عليها سوى الضرب بيد من حديد، على أن تطال “الرؤوس الكبيرة”، وليس الإكتفاء بالرؤوس الصغيرة..وقبل فوات الأوان، حيث أنّ الأحوال تتفلّت تدريجيّا، فيصبح لكلّ حيّ أو شارع “ديك” ينام ويصحو سكّانه على توقيت صياحه!..
