بقلم خالد صالح
أمّا وقد وقعَ التمديدُ للمجالسِ البلدية والاختيارية للمرةِ الثالثة تواليًا، في سابقةٍ لم نشهدْها منذ أن استعدنا هذا الحقّ الدستوري في العام 1998، فقد باتَ لزامًا أن نقرأ في أبعادِ هذا التمديد، سلبياته الكثيرة وإيجابياته (إن وجدت)، وما هي خلفيات هذا التأجيل، هل هي حقًا لوجيستية تتعلق بالإمكانات؟ أم هل هي بسبب المواجهة التي يشهدها الجنوب مع العدو الإسرائيلي؟ أم هل هي بسبب خشية الأطراف السياسية من نتائجها بعدما لمس المواطن اللبناني عجز هذه الطبقة عن ابتكار الحلول للأزمات التي تعصف بلبنان؟..
خبرُ إعلان “وفاة” الانتخابات البلدية والاختيارية لهذه السنة، أُعلنَ عنه في احتفالية شهدتها أروقة المجلس النيابي أوّل من أمس، بعدما أسهمت القوى السياسية بإيصال البلاد إلى غرفةِ العناية الفائقة، نتيجة استمرارها في التعنّتِ ورفضها كل المبادرات لإنهاء حال الفراغ في رئاسة الجمهورية، المدخل الرئيس لعودةِ الانتظام الفعلي للمؤسسات، وإصرارها على تعميم فكرة “التمديد” لتطاول كل الإدارات والمؤسسات الرسمية ..
نظريات قاتلة
للمرة الثالثة على التوالى يُفرض على الناس مجالس بلدية واختيارية بلغت حدّ الاهتراء التام والعجز الكلّي عن إدارة شؤونهم الحياتية، وتحت حجج واهية تارة لوجيستية وأخرى مادية وثالثة أمنية، يُحرم المواطن اللبناني من هذا الاستحقاق المُهم بالنسبةِ له، لتجديد ما يمكن تجديده بعدما فقدت المجالس البلدية القائمة الديناميكية المطلوبة للإدارات المحلية..
صحيح أن “التمديد” هو أبغضُ الحلول منعًا للفراغ الكلي، لكن هذه الحجّة هي بمثابة تبسيط الأمور ومواربة نور الشمس بالغربال، فـ “الوكالة الشعبية” للمجالس القائمة انتهت صلاحيتها منذ الـ 2022، والعديد من المجالس البلدية في مختلف المناطق حُلّت لأسباب كثيرة، وفقدت هذه البلدات الجهاز الإداري المعوّل عليه تسيير شؤونها بالحد الأدنى ..
شهادة من الواقع
قائمقام أحد الأقضية (تمنّى عدم ذكر اسمه) أكد لـ “ديمقراطيا نيوز” أن الوضع الإداري في القائمقامية أصبح عبئًا ثقيلًا علينا، إذ بين أيدينا ملفات لـ “9 مجالس بلدية”، سبعة منها حُلّت بالاستقالة، والاثنان المتبقيان من الأساس لم تحصل انتخابات بلدية فيهما سنة 2016، وشكّلت الأزمة التي نشهد فصولها منذ الـ 2019 عقبة هائلة نتيجة فقدان كل أنواع التمويل لتنفيذ الحد الأدنى من الأشغال الضرورية لهذه البلدات .
ويشرح القائمقام، أن البلديات في الظرف الراهن تؤمن احتياجاتها من خلال استيفاء الرسوم البلدية من المواطنين، وبعض رسوم الدولة (الهزيلة) وبعض المساعدات من خلال جمعيات محلية ودولية، لكنها بالإجمال وتحديدًا بعد انهيار الـ 2019 تعاني من شحّ الموارد بل العجز فيها، الأمر الذي أعاق دورها الإنمائي وغيّب المشاريع العامة كليًا .
ويقول، كنا نأمل أن تجرى الانتخابات على الأقل لتجديد المجالس بطموحات جديدة، لتخفيف العبء عن كاهل القائمقامية، فالمجالس القائمة حاليا فقدت أي قدرة على المبادرة والتخطيط والتنفيذ، ويتحكّم الشلل فيها كليًا، فجاء “التمديد” لينسفَ كل هذه الطموحات، وليشكّل “تمديدًا للأزمة” سنة إضافية من دون آفاق لأي حلول متوقعة، كرسالة للناس أن معاناتكم في وادٍ والمسؤولين في وادٍ آخر ..
استثمار سياسي
تحت حجج مختلفة لوجيستية ومالية وأمنية، أجهزت “قوى الأمر الواقع” السياسية الاستحقاق البلدي، بعدما حوّلت منذ عقدين البلديات إلى ساحات لتكريس نفوذها المحلّي سواء من خلال “فرض” مجالس بالقوة، أو من خلال إيصال أعضاء يدينون بالولاء المطلق لها، وهناك بعض القوى ترى أنه من غير الجائز إجراء انتخابات بلدية في ظل الشغور الرئاسي متناسية أن الانتخابات الأخيرة في الـ 2016 حصلت في ظل شغور أطول من الذي نشهده اليوم ..
عندما حصل التمديد العام الفائت، كانت الأسباب اللوجيستية هذ الركيزة التي بُني عليها اقتراح التمديد، من هنا تطرح جملة من الأسئلة، ماذا فعلت حكومة تصريف الأعمال لتذليل هذه الصعوبات؟ وما هي خارطة عمل وزارة الداخلية والإجراءات التي اتخذتها في هذه الشأن؟، وكيف تعاملت مع الاستحقاق المعروف موعده وتاريخ انجازه؟ بكل وضوح، لاشيء، صفر تخطيط، صفر وضوح وصفر عمل ..
أما عن مسألة المواجهة القائمة في الجنوب مع العدو الإسرائيلي، فبالإمكان تكرار تجربة الـ 1998 حيث كان الجنوب محتلًا وأجريت فيه انتخابات، وبعد التحرير في العام 2000، أصر وزير الداخلية آنذاك إلياس المر على في الـ 2001 على إجراء انتخابات بلدية واختيارية في الشريط المحرر ..
هذا التخبّط السياسي مردّه لابقاء الوضع الحالي قائمًا، وربط كل الأمور والاستحقاقات بأزمة الفراغ الرئاسي وما يدور من معطيات ومبادرات متعلقة فيه، واعتبار الانتخابات البلدية هامشية في الظرف الراهن، ليأتِ التمديد هذه المرة ليشكل “مقتلة” للعمل الديموقراطي وسدًا منيعًا في وجه أي محاولة لإعادة الحياة إلى المجالس البلدية المعطلة والعاجزة، ويشكّل أيضًا تساقطًا إضافيًا ممنهجًا للمواقع الإدارية لعمل المؤسسات، في ظل تنامي التيارات االتقسيمية والانفصالية التي تجتاح البلاد ..
وقع “التمديد” و “اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب” وعلى المواطن اللبناني تحمّل تبعات هذا الأمر، وكأن أنماط الفراغ والتمديد والعمل بالوكالات باتت السمة الأبرز لدولة تتحلّل وتتفكّك تدريجيًا، وإشارة قاتمة تضاف إلى سجلات السلطة السياسية الحاكمة الحافلة بالانتهاكات وضرب أسس الدستور والنظام من دون حسيب أو رقيب ..