بقلم خالد صالح
تخيّلوا معي أنّ طبيبًا جراحًا يستخفّ بمريضه وهو بين يديه في غرفةِ العمليات !!، أو أنّ مهندسًا تلاعب بالمواصفات المطلوبة لبناءٍ ما قيد الانشاء !!، أو أنّ محاميًا لم يبحث بعمقٍ عن الأدلةِ التي تُثبت براءة موكله !!، حكمًا ستكون النتائج كارثية، لأنهم غير مؤتمنين على ما أقسموا عليه ..
الأخلاق جوهر كلّ عمل ومختلف العلاقات الإنسانية، وتتضاعفُ أهميتها عندما تتعلّق بـ “مهنة” ترتبطُ بمختلف المهن وجميع فئات المجتمع بمختلفِ أعماره وثقافاتِه وانتماءاتِه، وعندما يتحلّل العملُ من الأخلاق فإنّ الأمورَ تأخذ منحىً سلبيًا يُسهمُ بشكلٍ مباشر أحيانًا أو غير مباشر في بعض الأحيان بتدمير الركائز الأساسية التي يُبنى عليها المجتمع .
الصحافة رسالة
قـد تختلفُ مدوّنات ومواثيق العمل الصحفي وفقًـا لطبيعة الـدول وخصوصية المراحل التاريخية التـي واكبت تطورات صحافتهـا، فمنهـا مـن منحت الصحفي الحرية المطلقة غيـر المشروطة فـي الكتابة والنشر، ومنهـا مـن تقر مسـؤولية الصحفي بفرض القيود، ومنهـا من جمعـت بين الحرية والمسؤولية لتصل فـي المحصلة إلـى الحرية المسـؤولة.
لكـن السـؤال الـذي يطرح نفسـه ما مـدى جدوى المواثيق والاتفاقيات فـي بلورة الفكر الأخلاقي للصحفي؟
بعد الإطلاع علـى العديـد مـن المحـدّدات والضوابـط الأخلاقية تبـرزُ أخلاق الصحفي ومدى تحمّلـهِ مسـؤولية حمـلِ القلـم وضميره الذاتي كأساسٍ من أساسيات تعاطيه مع المعلومـة وحمـل أمانتهـا، ويُشكّل الميثاق الأخلاقي الشخصي مرتكزًا يُحـدّد آليـة عمـل الصحفي وكيفية صياغة مادته الصحفية.
وعلـى الإعلامي بشكلٍ عـام إدراك أهمية العلاقة الانسانية بينه وبين القارىء ومحورهـا الرئيـس الاحتـرام المتبادل وتبادل الفكر والرأي من دون إسفاف أو خروج على المألوف، والتمسّك بالقيم السمحاء عمومًا والقيم المهنية خصوصًا ..
الحياة مقابل الحرية
في السادس من أيار في ذكرى “شهداء الصحافة اللبنانية” ألا يحقّ لنا أن نتساءل: لماذا ارتقت هذه الكوكبة منازلَ الشهادة ؟، وما هي الأسباب التي دفعت بـ “المتضررين” من وجودهم إلى شطبهم “جسديًا” من معادلة الوجود ؟ ..
ما خافَ “ظالم” إلّا من ريادة الحقّ في كلّ زمانٍ ومكان، لذلك أطلق على الصحافة “مهنة المتاعب” و”صاحبة الجلالة”، لكن شريطة ألّا تقع أسيرة البحثِ عن المكاسب والمصالح الآنية الضيقة، ماديًا أو معنويًا أو سياسيًا، إذ ليس المجرم الحقيقي هو من يعتمدُ القتل أو ارتكاب أعظم المعاصي، بل هو الذي يملكُ شيئًا لا يكون من أهله بالغش والخداع، كالصحافي المقلِّد أو السياسي المنافق، لأن الواجبات الأولية في الصحافي أو السياسي هي أن يكونا حاصلَين على ثقة الشعب باعتبارهم القدوة الصالحة في الأعمال والأقوال .
لم يتم شطب هذه “القامات” و “القافلة” تطول وصولًا إلى يومنا هذا، إلا لأنّهم تمسّكوا بقول الحقيقة ولاشيء غير الحقيقة، لم يسقطوا أمام المغريات ولا لانوا أمام التحديات، بل جاهروا بالحق وشكلوا في حياتهم سلاحًا في وجه الباطل، وباتوا في استشهادهم نبراسًا لمن أراد أن يسلكَ هذا الطريق الوعر، ولأنهم آمنوا أن “الصحافة” رسالة وأمانة وليست مجرّد مهنة، فأدّوها على أكمل وجه، فكانت حياتهم مقابل حرية فكرهم وعظمة وطنيتهم ومصداقية أقلامهم .
الصادقون الصادقون
“الصحافة” هي نتاج العقل والعقل العامل، وحيث لا “عقل” عامل لا “صحافة”، واليوم قد بلغنا في ميدان الصحافة انقسامًا حادًا بين الاستتباع الأعمى للولاء السياسي والتمسك الأسمى بالرسالة، ففقد الكثيرون ممن يلعبون هذا الدور المنهجية الحقة، وتحوّلوا بـ “إراداتهم” إلى أبواق للحكام والسلاطين، وأصبحت عقولهم راكدة جامدة وهامدة، من دون القدرة على التأثير الإيجابي المباشر، بل زادوا “الطين بلة” عندما صاروا يتعاملون مع الإشاعات والأخبار المدسوسة لمآرب مكشوفة والمعلومات المغلوطة على أنها حقائق، وينشرونها من دون أيّ جهد لتأكيدها .
إذا رأيت أمةً عاملةً نشيطةً رافعة راية العلم ولواء العمران يخفق عليها حكمتَ بالضرورة أنها ذات “صحافةٍ راقية”، وأن أهلها من أبعد الناس إمعانًا في الحضارة، وكما أن العاقل العامل قد يكون عاملًا للخير وعاملًا للشر، تكون الصحافة أيضًا عاملةً للخير وعاملةً للشر، فهي إذًا من أقوى الوسائل لبث الصلاح بين الأمة، كما هي من أخطر العوامل لنشر الفساد والبغضاء والانقسامات.
إن “حامل القلم” كـ “حامل السيف”، في يمين كليهما سلاحٌ ماضٍ، وقد أصبح حامل القلم في يومنا هذا كالقابض على الصولجان، كلاهما نافذ الكلمة مرعي الجانب، ولكن لا يتم ذلك للكاتب إلا إذا فهم حقيقة مهمته، وأدرك شرف مهنته، فإذا لم يكن كل من هزَّ الحسام بضارب فكذلك ليس كل من هزَّ اليراع بكاتب، وأبعد حملة الأقلام نفوذًا الآن هم الصحافيون، بفضل انتشار المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي العديدة وإقبال الكبير والصغير عليها، وعليه يجب أن تكون الصحافة – كما قال أحد كبار المفكرين – شجرة الحقيقة يغرد على أفنانها الكتَّاب الصادقون.
في ذكرى “شهداء الصحافة اللبنانية”، نتمسّك في “ديموقراطيا نيوز” بهذه الروح التي نشأنا عليها، واتخذناها سبيلًا لنا وصراطًا واضحًا لا لبس فيه، رغم وعورة الدرب، فإننا سنسعى للحفاظ على أخلاقيات المهنة وشرف ممارستها بصدق، ولن نقول إلا الحقيقة، الحقيقة ولاشيء غيرها .