بقلم خالد صالح
وأنتَ تنظرُ إلى الأزمات التي تعصفُ بـ “لبنان” من كلّ حدبٍ وصوب، لابدّ أن تقفَ مطولًا أمامَ الغيابِ الكبير الذي خلّفه رحيل مَن وصفه الرئيس الشهيد رفيق الحريري بأن ” كلام البطريرك هو بطريرك الكلام” غبطة البطريرك الراحل “مار نصرالله بطرس صفير”..
ليس سهلًا أن تختصر “ربع قرن” (1986-2011) من تربّع البطريرك صفير على كرسي بطريركية أنطاكية وسائر المشرق، فزحمة الأحداث التي شهدها لبنان في هذه الحقبة كانت كفيلة بأن تُكرّس وتطوّب البطريرك “السادس والسبعين” واحدًا من الذين دمغوا تاريخ لبنان بحضورهم ومواقفهم، لنستذكرَ حكمتَهُ في زمن العبث والجنون والمجون، ونستعيدها في زمن قهر الوطن وكسر المواطن وسحقه.
أمام أزماتنا المخيفة، ومعاناتنا من ضياع السّيادة وعقم السلطة المشتتة بين قوى مذهبية وطائفية وتداخل إقليمي – دولي تتقاسم فيه نفوذ الشارع، وأمامَ إحساسنا العميق بأن “اللغات البائدة” التي كنا على وشك الخروج من أتونها عادت بقوة لتهيمن على حياتنا، بالطول والعرض، نستعيد ذاكرتنا مع سيّد الصرح، الذي قاد بشراسة معركة التحرير والتحرّر، عاش التحرير لكنه غادر قبل التحرّر .
الهمّ بدل المجد
عندما لوّح بيده في آذار 2011 مغادرًا الكرسي البطريركي واختياره طواعية “العزلة التأملية”، لم يكن تخليًا عن مسؤولياته الجِسام التي حملها على عاتقه، بل لأن “همّ لبنان” أثقله، وهو المحاربُ من غير سلاح، صحيحٌ أنه حمل صولجان المسيحية والمارونية تحديدًا في أنطاكية والشرق، لكنه حمل سيفَ وطنيته بجسارة، كيف لا وهو الذي شهد على التوصيف العميق الذي أطلقه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني “وطن الرسالة”، فآمن أنه أكثر من بلد، إنه أنموذج للتعايش والانفتاح والتعددية ليس للشرق فحسب بل لكلّ العالم .
شكّل البطريرك الراحل في حمأة التشابكات الداخلية، ما قبل الطائف وما بعده، حارسًا للذاكرة اللبنانية في أحلكِ وأصعبِ الظروف في تاريخ لبنان الحديث، وأعظمها عملية الانتقال من لغة السلاح والدمار والقتل والموت، إلى لملمة الأشلاء والبحث عن المخارج وتضميد الجراحات، وتثبيت السيادة والحرية والاستقلال وبناء الدولة والانسان، تبنّى الطائف ورعى المصالحات الكبرى، فكان الحارس الأمين للنسيج الوطني وفرادته، وبدل أن يحمل “مجدَ لبنان” وجد نفسه يحمل “همّ لبنان” على درب جلجلة خلاصه .
لقد قلنا ما قلناه
“أنا لا أحمل مطلبًا مسيحيًا فئويًا، إنّما الهموم التي أحملُها تطاولُ جميعَ اللبنانيين وحقوقهم بالعيش الكريم والدفاع عن مطالبهم بالأمن والسلام والحياة بكرامة”، تمسّك البطريرك صفير بهذه المقولة طوال فترة تواجده على كرسي الصرح، فهو رجل الثوابت الوطنية قبل الكنسية، أدرك أن “زعماء الموارنة” تحكمهم الأنانية المفرطة والعمياء في التهافت على السلطة فتحوّل هذا الأمر إلى تنافس عدائي فيما بينهم استبيحت فيه أحيانًا كل المحرمات، الأمر الذي أدّى تراجعًا كبيرًا لدورهم ولحضورهم ولقدرتهم على التأثير الإيجابي في مستقبل لبنان، فجاهد كثيرًا كي يغرس في نفوسهم العقيدة الوطنية البعيدة عن الحسابات الشخصية الضيقة والمصالح الفردية .
كان البطريرك الراحل يعرف ماذا يعني “مقام الرئاسة الأولى”، لذلك رفض لجمهور 14 آذار في الـ 2005 التوجّه إلى قصر بعبدا لاسقاط “إميل لحود”، ليس دفاعًا عن شخص الرئيس، بل كي لا تصير سابقة قد تتكرر لاحقًا، فهو يحترم المقامات أولًا قبل احترامه لشاغليها من دون أن يخشاهم قيد أنملة، كان واضحًا وقويًا، ثابتًا حكيمًا ورؤيويًا وتغييريًا، يفهم جيدًا “لعبة الموازين”، لذلك نفتقد دوره وديناميكيته في كل منعطف وطني، ونستشعر الفراغ الذي أحدثه غيابه .
لم يخش موقفًا اتخذه، وكان جوابه حول أي قضية “لقد قلنا ما قلناه” في دلالة على قناعاته الثابتة من القضايا المصيرية، جعل من موقعه قلعة حصينة، وهو ورغم رعايته لـ “لقاء قرنة شهوان”، لكنه كان يريدُ “لقاءً وطنيًا جامعًا”، وكانت سعادته منقطعة النظير عندما انضم الرئيس الشهيد رفيق الحريري والزعيم وليد جنبلاط إلى لقاء البريستول، لأنه استشعر بعمق حدسه وقراءته المتأنية للتفاصيل، أن “بيان المطارنة الأول – أيلول 2000” قد وضع على سكة التنفيذ.
مزايا مفقودة
أكثر ما كان لافتًا في حكمة البطريرك الراحل عدم انجراره خلف الشعارات الكبيرة، يستشعر أحيانا أنها تخفي خلفها أطماع ومآرب شخصية أنانية، لكنه ما تنازل قط عن الدفاع عن المبادىء السليمة، وأصداء مواقفه كانت أكثر تأثيرًا من كلّ الضجيج المفتعل لطمس الحقائق أو حرفها عن مسارها، وما قدّمه من رعاية لـ “انتفاضة الاستقلال” صار مثالاً يحتذى لكل اللبنانيين الباحثين عن وسيلة لبناء دولتهم المنشودة .
لم يهادن أحدًا، ولم يكن يجاري التيارات الموجودة، بل عمل على خلق “تيار وطني جامع”، بأفكار ترتكز على القيم اللبنانية، أراد من المصالحات التي عقدها والتجمعات السيادية التي رعاها سبيلًا إلى “حوار” منتج بين مكونات الوطن، لأن “اللبننة” تبدأ من هنا، وفي الذاكرة الكثير من المواجهات التي خاضها مع الذين أزعجتهم خطوات البطريرك صفير في رحلة ترسيخ مفهوم لبنان “الوطن لكل أبنائه، الحر السيد المستقل” .
اليوم بعد خمس سنوات على غياب البطريرك صفير، تظهر الحاجة الوطنية الكبرى لمن يسير على دربه، فيعمدَ إلى بثّ الروح الوطنية في الشرايين التي تآكلتها الأوبئة المذهبية والطائفية وحتى المناطقية، لاستعادة الدولة بكامل سلطتها ودورها وبريقها، للخروج من الأجندات الإقليمية المفروضة علينا، والتي أودت بنا إلى تحلّلٍ كامل في تركيبتها، بعدما استشرس الفساد المقونن في جسدها بصورة غير مسبوقة.
الجميع يستحضر البطريرك الراحل في أدبياته، لكن المرحلة تحتاجُ إلى أكثر من استحضارها، تحتاج للشروع بتنفيذها، وذكراه تتطلب منّا جميعًا أكثر من عبارات الرثاء، فقد كان في حياته يحظى باحترام عظيم من الجميع، لذلك علينا ألا نتطلع فقط إلى ما كان يقدمه لطائفته أو كنيسته، بل إلى ما كرّس حياته من أجل وطنه، وأن نسلك هذا الدرب، لأن “البطريرك صفير” صار “أنموذجًا” يُحتذى ..