بقلم خالد صالح
كانت “الساحات” التي تعبق بأريج الحريّة، حلمه الذي تجسّد، وكانت هتافاته التي أطلقها تُشكل نبراسًا ومقصد .. كان اسمه كفيلًا بأن تُدير الغرف السوداء “الأمنية المشتركة” محركاتها للجم صوته الذي صار “ديكًا” يقضّ مضاجعهم في كلّ صباح .. كان اسمه “سمير قصير” ..
كان قدرُ سمير قصير أن يعيشَ في واقعٍ يقبعُ على خطّ زلازل مثلث الأضلاع بين لبنان وسوريا وفلسطين، امتشقَ الكلمة سيفًا في وجه كارهيها، التحفَ الأرضَ التي تضجّ بعبق التاريخ وهديره، أطلقَ صرخته “عسكر على مين” فأتاه الرد من أعماق الأقبية المظلمة حيث صليل الجنازير التي تُقيّد كل صوت صادح بالحرية ..
كان اسمه “سمير قصير”، هذا الفتى الذي فَهِمَ معاني الأرض وأوجاع الاحتلال، عاش حياته على هذا “الفالق” مجاهدًا بـ “رفع الصوت” ربّما “الصوت بيودّي”، وقضى معظم أيامه في رأب الصدع بين العين والأذن، ووصل ما انقطع من “الشعيرات” بين الرؤية والسمع ..
الحالم بلا انقطاع
بعد زلزال ١٤ شباط ٢٠٠٥ لبّى نداء الحرية العظيم، وقف بكامل جرأته وتحدّيه وعناده، صدّاحًا بالحق، اسبل جناحيه على الشباب الرافضين لـ “كم الأفواه” الباحثين عن “كسر القيد”، الذين فتحوا أعينهم بـ “وسع المدى” لمقاومة المخرز، مؤكدّا لهم أن الأحلام لا تضمر ولا تتعثّر، وأنها كانت لتبقى، لأنها مراد الناس، وأن الأحلام لا تنقطع، لأنّه متى حصل هذا، فلن تكون حياة .
كان “سمير قصير” مؤمنًا بـ “حبل الوريد” الذي يربط “بيروت” بـ “دمشق” بـ “القدس”، وأن الهمّ المشترك واحد، والأحلام واحدة، فاستهدى إلى أسرار النبض وضجيج الشرايين، فأسال لأجلهم عرق الجبين وحبر الروح، في عصر صارت فيه كلفة الحبر أغلى من كلفة الدم، وكان حلم سمير ثقيلًا جدًّا، لم يقتله حبه للقدس أو بيروت أو دمشق، بل حبّه للحق المهدور والمسفوك على ناصية الأحلام، فوقف كما قال محمود درويش “على ناصية الحلم وقاتل” ..
الحياة لمن يحبها
اتّحدَ سمير مع معادلة الصراع القائمة والعميقة، وبهذا “الحب” صار إنسانًا” حقيقيًا، فأمام ناظريه تُسبى فلسطين من جديد كلمًا رأى شعبًا “مدعوس” على رأسه في أي بقعة من أصقاع الأرض، كان نقيًا بهيًا، صقلته الأيام في موضع الحق والعدل، كان حادًا رافضًا لـ “قوى الأمر الواقع”، مؤمنًا أن الغاصب أو المحتل أو المسيطر بالقوة لا يدحرهم إلا مقاومون أحرار، وأول درس من دروس المقاومة تعريف الموت كـ “نفي للحياة” ..
كان سمير على قناعة تامة أن “الإرهاب” لا يمحو “إرهابًا” بل يُراكمه، وأن ثقافة “تمجيد الموت” تجعل النهوض والتطور فرصًا نادرة وعابرة بين القتل والقتل، فالحرية هي اختزال للحياة في مفردة واحدة، دونها العقم الفكري وانحلال كل معنى، فالراشات لا تحوم فوق الأبنية المدمرةولا على الشظايا المتناثرة بعشوائية مجرمة، وأن النحل لا يجني العسل من فوّهات المدافع.
وحين نقدم “ممجد الموت” على “عاشق الحياة” يصبح تزيين “المقابر من فنون الإبداع، وأن كم الأفواه وقتل الأحلام بطولة عظيمة، وحين يعمد ممجدو ثقافة الموت على اختيار تقديم الضحايا بدلاً من تقديم الإنجازات، لن يكون هناك فرصة لتحرير شعب أو وطن، فالعملية ليست أكثر من تهريب الأرض من غاصب إلى آخر تحت هيصات الزغاريد، أو بتسليم الأعناق من ديكتاتور إلى ديكتاتور آخر تحت صليل السيوف وخفق البيارق .
هزّهم صوته .. فكتموه
من اغتال “سمير” ستلتصق به صفات البربرية أبدا، فقد نجح في “تسميم” ينابيع الرفض، وأبدع في استعمال “تقنيات الغدر”، لكنه فشل في تطوير أنموذج واحد عن معاني الحياة، ومن لم يستطع صناعة الأحلام والقيم والمبادىء، لن يرافقه في دربه إلا الإجرام و “السلبطة” وغربان الفقر الذي أسسه بالدم والدمار، ومصيره أن يدفنه التاريخ بلا جنازة .
التاريخ دومًا يحفر أسماء الأحرار في سجلاته كي تبقى، أما الذين اغتالوا “سمير” فهم في صدارة من يتستّر بالأقنعة، هذه الأقنعة التي اهترأت وبدأت بالتساقط، فهم مهزومون تحت راية “الحرية”، وكل ما نراه على الشاشات والمنابر ما هو إلا “جعجعة بلا طحين”، ولن تنجح في طمس نداءات التحرر من الوهم، ولن تنجح محاولاتهم التي تعلّموها من “كلاب الصيد” التي تطارد كل عاشق لـ “الصوت الحر” المنتفض في وجه الجلاد .
نجحتم في “شطب” الجسد، لكن أنّ لكم أن تنجحوا في محو الفكر، فمن تطاولتم على سمو فكره وعلو كعبه اسمه “سمير قصير”، أردتم أن ينزوي اسمه على رفوف النسيان، فإذ به بعد تسع عشرة سنة يتحول إلى “أيقونة” لجيل كامل، جيل يعشق مفهوم “الحرية”، اردتم أن تمسحوا ذكراه بإراقة دمه فهزمكم، فقد عرّاكم دمه المسفوح، وظل ذكره على كل شفة ولسان ..