من يسعى لضرب الاعتدال السنّي ؟

بقلم خالد صالح

لم يكن الحادث الأمني الذي حصل في محيط السفارة الأميركية هو الأول من نوعه، وربما في ظل الوضع الهش الذي يمر به لبنان لن يكون الأخير، فالبلاد – ورغم الجهود الجبارة التي تبذلها المؤسسات الأمنية – مكشوفة على الكثير من الخروقات من هنا وهناك، نتيجة عوامل كثيرة أهمها “الحدود السائبة” .
لكن التساؤل الأهم الذي يُطرح في هذا السياق، من الذي يسعى إلى تظهير “التطرف السنّي” كحالة قائمة في لبنان ؟، ومن المستفيد من بروز حالات التشدّد والتصويب عليها؟ ولماذا كلما جدّ جديد تبرز “داعش” كنوع من الرسائل داخليًا وخارجيًا ؟..

تتّسم الساحة السنّية اللبنانية بالتعدّد من حيث البُعد التنظيمي، وتتنازعها في الغالب تيّارات مرنة أكثر مما هي تنظيمات حديدية أو حادّة إيديولوجيًّا، ربما لأنه يغلب على “السنَّة” عدم التقوقع طائفيًّا في مناطق محددة دون غيرهم، ويمتازون بالاختلاط الواسع مع المكوّنات اللبنانية الأخرى، لا سيما أنهم توزّعوا بين المدن الكبرى، فضلًا عن انخراطهم التاريخي في “المقاومة” الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي القابع على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة .
اليوم، وبسبب تنوّع التحدّيات التي تشهدها الساحة اللبنانية وتعقيداتها الكثيرة، ما بين دستوري وسياسي وأمني واقتصادي واجتماعي، يتعرّض السنّة في لبنان إلى ما يشبه “حرب تحجيم”، وإقصاء من المعادلة بسبب سلوكهم نهج “الاعتدال” الذي يرونه “سلاحهم” الوحيد، في خضم حروب شرسة يُباح فيها استخدام كل أنواع السلاح، التقليدي منها وغير التقليدي .

لماذا هذا المدخل؟
منذ تأسيس لبنان، يلعب السنَّة أدوارًا متقدّمة في عمق السياسة اللبنانية، وقد شكّلوا مع الطائفة المارونية دعامتي الاستقلال الأول، ولم يكونوا “صِداميين” بالمعنى الحرفي للكلمة، فمواجهتهم للكثير من القضايا كانت تأخذ طابعًا مؤسّساتيًا، سياسيًا ودستوريًا، بعيدًا عن لغة العنف والعسكريتاريا، على الرغم مما تعرّضت له الطائفة على مرّ التاريخ من عملية “إلغاء” ممنهجة للكثير من قياداتها، من رياض الصلح وصولاً إلى رفيق الحريري.

مع “التآكل” الذي يضرب الميدان السياسي اللبناني وانهيار الدولة وتعرّض المجتمع المحلّي للتفتت بشكل بات عصيًّا على الإصلاح، وارتفاع الأصوات المنادية بـ “الفيدرالية” طورًا وبـ “اللامركزية المالية الموسّعة” طورًا آخر، نظرًا لتقدّم “الهوية الطائفية” على الانتماء الوطني الصرف، يبرزُ “المكوّن السنّي” بمهمته التاريخية بالحفاظ على ديمومة هذا الوطن، رفضًا لكل أشكال “التقسيم” العلنية أو المبطنة، من خلال تمسّكهم بالعقد الاجتماعي – السياسي القائم حاليًا (اتفاق الطائف) – ومعارضة كلّ المساعي التي من شأنها ضرب هذا النظام ضمن الأطر السياسية البعيدة عن أي خطاب طائفي ومذهبي .

ولأنهم “أم الصبي” وخطابهم المعتدل يُحرج بقية الخطابات السياسية الأخرى، فالخطاب السني خطاب دولة ومؤسسات وقانون، خطاب جامع لا تفرقة فيه، وهو الخطاب الوحيد في لبنان الذي لا يحتوي عبارات تقسيمية بل خطاب قائم على ثوابت العيش المشترك والواحد مع بقية مكونات البلد، وفي ظل الظروف الراهنة هذا الخطاب غير مرغوب فيه، ويجب أن يكون هناك خطاب آخر يتماشى مع الطروحات السياسية التي نشهدها خلال هذه الفترة .

اتهامات جائرة
أمام هذا الأمر ونتيجة الإحراج الذي يُسببه “الاعتدال السنّي” تطفو على السطح بعض الاتهامات بين الحين والآخر، وتتوزّع هذه الاتهامات من خلال التركيز على نشوء حركات متشددة ومتطرفة داخل البيئة السنية، لخلق “الذرائع” للخطابات المتشددة الأخرى، فيتم التصويب على “داعش” مرة وعلى مسألة اللاجئين السوريين مرة أخرى، بهدف إيجاد مساحة تمكّنهم من القول، أن السنة باتوا لا يرون خيارًا إلا الجنوح نحو “التشدّد والعنف” وأنهم باتوا ينبذون “اللعبة السياسية الخاسرة”، لأن مكانتهم داخل الكيان اللبناني باتت على المحك .
تحاول هذه الجهات – وهي معروفة – تظهير أنّ أحد أهم الأسباب التي تقف وراء التعقيدات السياسية في لبنان هو “الترهّل” الذي أصاب السنّة وقياداتها، وأنّ المواجهة المفتوحة على كل الاحتمالات هي السبيل الوحيد أمامهم لاستعادة ريادة دورهم، بما في ذلك وضع خيار العنف في صلب هذه الخيارات، الأمر الذي يناقض تمامًا رؤية هذا المكوّن الذي يجنح دومًا نحو “العقلانية”، وعدم قطع كل الأوصال مع بقية الفرقاء، وأنّ الاختلافات السياسية يجب أن تبقى ضمن هذا الإطار، لأنّ لغة “الدماء” ليست في قاموسهم، وقد أثبتت كل الأحداث التي عصفت بلبنان أنّ المكوّن السنّي ينبذ بقوة “لغة الميليشيا” و “العسكرتاريا”.
لا يخجل “المكوّن السنّي” من معارضته حين يُعارض، ولا يكتمُ أهدافه أو رؤياه إن أراد تشكيل جبهة معارضة، لأنّ معارضته بنّاءة وديموقراطية وضمن الأطر الدستورية المعمول بها، ويرفض منطق “الجبهات” و”الجبهات المقابلة”، لأنه يُدرك أنّ هكذا أمور ستدفع بالبلاد إلى “الخندقة” و”المتاريس”، ولأنه دائمًا ما يستحضر الدروس من التاريخ ليستشرف معالم المستقبل، فالتجربة اللبنانية على مرّ قرن من الزمن كان المكوّن السنّي هو “همزة الوصل” فيها، و”حجر الرحى” الذي تدور حوله كل القضايا المصيرية.

أثبتت كل الأحداث التي شهدها لبنان أنّ “الكباش السياسي” جائز ما دام يدور في هذه الحلقة، وأنّ المكوّن السنّي هو المرتكز السياسي الأبرز نظرًا لاعتداله ولعمقه الديموغرافي والجغرافي، وأنّ عدم انجراره للصدامات مردّه ليقين هذا المكوّن أنّ المعارضة واجبة، ونبذ العنف والتطرف إيمان، وهذا هو النهج الحقيقي الذي يجب العمل عليه لترسيخ الوعي الجماعي والممارسة السياسية للنخب القائمة في لبنان.

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top