بقلم خالد صالح
قلّما حظي سياسي لبناني بكمٍّ هائل من الفرص مثلما حظي “جبران باسيل”، هذا الرجل القادم إلى السياسة من “اللاشيء”، شكّل منذ العام 2005 نموذجًا في ميدان السياسة، وليس بالضرورة أن يكون أنموذجًا جيدًا، بل “عقدة” سلبية مستدامة نتيجة الدلال المفرط الذي أسبله عليه عمّه “ميشال عون” منذ عودته من فرنسا .
“كرمال عيون جبران ستين عمرها ما تتشكل الحكومة” عبارة أثقلت كاهل اللبنانيين على مدار عقد ونصف، وجعلت باسيل “يتفرعن” بشكل لا مثيل له، وبدلًا من أن يستغل “الصهر” هذه القوة وتجييرها لشق طريقه السياسي كما ينبغي، أخذته العزة بنفسه وضربه الغرور، فصار أكثر استفزازًا وعنصرية، رسم خارطة طريقه نحو “قصر بعبدا” بالكثير من المشاهد التي حاول اللبنانيون دفنها إلى غير رجعة، نبش القبور، ضرب المقامات، كرّس الطائفية البغيضة، معتقدًا أن المناداة باستعادة حقوق المسيحيين هي الطريق الأقصر نحو غايته المنشودة .
وجد باسيل نفسه أمام “سلّة” مليئة بالفرص فأهدرها الواحدة تلو الأخرى، ينام ويستيقظ على حلم “فخامة الرئيس”، وبدلًا من تعبيد الطريق أمام أحلامه بالقدرة على تدوير الزوايا، واستثمار الفرصة الذهبية التي أتيحت له بوصول الجنرال إلى كرسي بعبدا، والعمل على بلورة مشاريع سياسية جامعة، واقتصادية سويّة، ونهضوية مميزة، اختار “الإلغاء” كأبرز مشاريع عمّه، معتقدًا أن إزاحة كل الأخصام من دربه سيحقق له الحلم الوردي .
حروب الإلغاء
لا يختلف اثنان على دهاء وذكاء جبران باسيل وقدرته الفائقة على الإحاطة بكل الملفات التي يعمل عليها، المشكلة بـ “سلبيته” المخيفة، ثلاث وزارات تسلم زمامها، فأسقطها جميعها في براثن الفساد والمحسوبيات والتنفيعات والمصالح الخاصة سعيًا للكسب المادي، مارس “رئيس الظل” لست سنوات فعطّل البلاد وعرقل تشكيل الحكومات، فتح جبهات بكل الاتجاهات، مع الرئيس نبيه بري، مع الرئيس سعد الحريري، مع الزعيم وليد جنبلاط، إلى “اتفاق معراب” و “أوعى خيّك” مع القوات اللبنانية، حتى مع حلفائه وفي مقدمهم “حزب الله”، لم يترك مكانًا إلا وزرع فيه “بذور الفتنة” حتى في الشارع المسيحي الذي يدّعي الدفاع عن حقوقه، أليس هو القائل “سأنسيكم كميل شمعون وبشير الجميل” ؟ .
عندما قامت ثورة 17 تشرين كان “نجمها” الأول، وناله من الثائرين النصيب الأكبر، سياسيًا وشخصيًا، لم يرتدع ولم يبدّل أسلوبه بآخر، بل جرّ عمّه ورئاسة الجمهورية إلى مستنقعات لم يشهدها لبنان من قبل، ضرب بكل اتجاه مكشرًا عن أنيابه في وجه الجميع، إمّا أنا أو من بعدي الطوفان، ورويدًا رويدًا بدأ بممارسة أسلوبه “الكريه” في الانتقام من اللبنانيين، فوقف حجر عثرة أمام كل ما من شأنه وضع البلاد على سكة الخلاص، وآخرها رفضه بشكل “فاضح” أي طروحات تتعلق بانتخابات رئاسة الجمهورية ..
لا يبحث باسيل عن ديمومة لبنان الوطن والدولة والإنسان، همّه الأول والأخير أن يجلس على كرسي بعبدا، وأن يشطب اسمه من قائمة العقوبات الدولية، وفي سبيل هذا لا محرمات لديه ولا ضوابط لتصرفاته، يستلذ باللعب على حافة الهاوية، متهوّر بشكل خطير ولا يربأ إن دخلت البلاد في صراعات دموية من جديد، عراضاته يقوم بها من دون أي تقدير للمكان أو الزمان أو الحيثية، ما زرعه في رأسه يعمل على تنفيذه ولو كان على حساب الآخرين، لأن مشروعه في الأساس قائم على فكر الإلغاء .
الحظ والقداسة
سأل أحد الملوك مستشاره قائلا: “أيهما أفضل الحظ أم القداسة؟ قال له بدون أي مقدمات : القداسة طبعًا يامولاي!، ضحك الملك وقال له: سأدحض رأيك بالدليل أو تثبت لي رأيك وبالدليل !فوافق المستشار ..
خرجا في صباح اليوم التالي إلى أحد الأسواق، ووقف الملك يتأمل في وجوه رعيته حتى رأى حمّالا بائسًا جدًا، فأمر الحرس بجلبه إلى القصر، ثم أمر بأن يطعموه ويلبسوه الحرير، ثم جعله وزيرًا، ثم أمر بإدخاله إلى مجلسه، فاندهش المستشار عندما رأى أن الحمّال أصبح وزيرًا !
فقال الملك للمستشار : أيهما أفضل الآن الحظ أم القداسة؟، فأجاب المستشار: أعطني فرصتي يامولاي لأثبت لك بأن رأيي الأصح !
خرج المستشار إلى السوق ووقف يتأمل، وإذا به يرى حمارًا هزيلًا وسخًا ومنهكًا من التعب، فاقترب منه وبدأ يتحسّسه ويتلمسه، والناس ينظرون إليه باستغراب حتى تجمهروا من حوله، ثم قال بصوت عالٍ: أيّها الناس، أتعلمون أن هذا “الحمار” طالما حمل على ظهره أحد أنبياء الله فقد ذُكر وصفه في الكتاب الفلاني نقلا عن فلان ابن فلان، وماهي إلا لحظات حتى أصبح ظهر الحمار الأجرب مزارًا، وملئت أذناه نُذورًا، وبدأ الناس يتبرّكون به، فهذا يطعمه، وذاك يغسل قدميه، وتلك تأخذ شعرة منه لتتزوج، وتلك تتمسّح به لتُرزق بطفل، ثم أسكنوه في بيت نظيف، وعينوا له خدمًا، وصار الحمار يسرح ويمرح في أي مكان، ويأكل ويشرب من أي بيت يريد، والكل يقدّسه ويتبرك به ..
قياسًا .. كم من متطفّل على السياسة ألبسه الجهلة ثوب القداسة فسلب العقول وحوّل الأنظار، كم من “محظوظٍ” ركب ظهور الجهلة فقادهم وساسهم، كم من دخيلٍ صار بفضل بروباغندا الإعلام سياسيا لشعب مغفّل .!؟؟
يقول “جورج أورويل”: “إن الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والناهبين والخونة، لا يعتبر ضحية، بل يعتبر حتمًا شريكا في الجريمة ..”