بقلم خالد صالح
مع استفحال الأزمة السياسية في لبنان، وتصاعد حدة المعارك جنوبًا في ظل التمادي الإجرامي الذي يرتكبه العدو الإسرائيلي، ونتيجة للانقسام العمودي في أراء اللبنانيين على اختلاف مشاربهم في الموقف من الحرب على وقع التهديدات الاسرائيلية التي لم تخرج حتى اللحظة من تحت عنوان “التهويل”، تطلّ “الفيدرالية” برأسها على الواقع اللبناني كلما جدّ جديد، وتبدأ المناداة بها وإن كانت بلغات متباينة، منها بالمباشر ومنها غير المباشر .
صار من البديهي القول إن البحث عن مخارج للأزمة العميقة التي تعصف بـ “لبنان” كالبحث عن “إبرة في كومة قش”، وعاد الحديث عن تركيبة النظام يحتل الواجهة أمام “العقم” الذي ضرب الطبقة السياسية برمتها، وجعلها في حالة “ترهّل” و “عجز” عن اجتراح الحلول وإعادة اللحمة الوطنية، لاسيما بعدما توسّع الحديث في مختلف الشرائح بلغة طائفية ومذهبية وصولًا إلى المناطقية ..
لقد أسهم العجز القائم في انتخابات رئاسة الجمهورية في ضرب الحياة الوطنية باعتبارها مسألة شديدة التقلب، خصوصًا أن النظام الطائفي يقف حائلًا أمام نشوء ثقافة “المواطنة” من خارج هذا القيد، لا بل إن الانقسام الطائفي والدعوة دائمًا للحفاظ على حقوق الطوائف على حساب حقوق المواطن، أفقدنا ثقافة الانتماء للوطن ودفع بنا نحو الإشهار بضرورة “كل واحد يعيش متل ما بدو” ..
إهدار فرصة العمر
لاشكّ أن الحالة الوطنية العابرة للطوائف والمناطق التي تجلّت إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، عززت لدينا مشاعر الانتماء، ومثّلت تلك المشاعر “فسحة أمل” في إمكانية ظهور “مواطنية لبنانية” عابرة للقيود والانقسامات، وجعلت اللبنانيين يتحملقوا تحت عناوين عريضة كالسيادة والحرية والاستقلال، ومنطق الدولة فوق “الدويلات” المقنعة التي فرضتها الحرب الأهلية البغيضة .
اليوم تكاد تلك المشاعر أن تندثر تمامًا، فالبلاد آخذة في “التحلّل” شيئًا فشيئًا، وعادت لغة “التقوقع” الطائفي والمناطقي للبروز بشكل مخيف، وبات الحديث عن الـ 10452 كلم2 حديثًا للتقطيع الاعلامي، وبدأ الحديث عن ضرورة التخلّي عن اتفاق “الطائف” لصالح أنظمة مستقلة تمزّق الوطن إلى “كانتونات” طائفية خالصة، ويعلل البعض من مؤيدي هذا الطرح أنهم أصبحوا غير قادرين على التعايش مع المنظومة الحاكمة، والنظام الأمني وهيمنة السلاح على القرار السياسي.
فهل تمثّل عودة الحديث عن “الفيدرالية” بأنها “الحلّ السحري” لمشاكل لبنان، الذي لم يخرج يومًا من أزماته المتلاحقة منذ ميثاق الـ 1943 ؟، وهل هذا النوع من الأنظمة قابل للحياة والتطبيق في بلد تتداخل فيه الديموغرافيا بالجغرافيا بصورة جدًا معقّدة ؟، وهل “الفيدرالية” تمثل “القاسم المشترك” بين اللبنانيين، كي تتحول من فكرة إلى نظام ؟ .
الطائف أولًا
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن “اتفاق الطائف” واعتباره بات “منتهي الصلاحية”، وأنه بات لزامًا الشجاعة في البحث عن “نظام” جديد يعيد تركيبة فسيفساء البلاد بصورة مغايرة، لأن البعض يستشعر بالضرر اللاحق به نتيجة توزيع الأدوار المنصوص عليها في هذا العقد، ويجب إدخال الكثير من التعديلات عليه إن كان الوصول إلى اتفاق جديد صعبة .
لكن الواقع يدحض هذا الأمر كليًا، فأي تعديل على جوهر هذا الاتفاق يعني السير إراديًا نحو الهاوية، فالمطلوب التلاقي حول تطبيقه اولًا قبل الحديث عن تغييره أو استبداله بآخر، وتنفيذ بنوده العالقة منذ تحوّل “دستورًا” للبلد، والتي أراد “السوري” من خلال هيمنته الابقاء عليها معلّقة كي تكون “عقدة في المنشار” وسببًا إضافيًا للمزيد من الانقسام الداخلي .
تطبيق الطائف يبدأ من انتظام عمل المؤسسات بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة تُمسك بزمام الأمور سياسيا واقتصاديا وأمنيًا، والخروج من حال التعطيل المستمر الذي صار سمة لبنان، وما الحديث عن “الفيدرالية” إلا كـ “ذر الرماد في العيون” هدفه الضغط على بعض الأطراف السياسية للقبول بحلول منطقية لأزماتنا، لأن قيمة لبنان الحقيقية هي في هذا التنوع الفريد، وبدلًا من التلّهي بوضع حدود ديموغرافية بين اللبنانيين يجب العمل على المحافظة على هذا التنوع لأنه يشكل صورة بهية عن لبنان.
كلمة حق يراد بها باطل
عند كل مفترق طرق تشهده البلاد، وعند كل أزمة يلجأ البعض إلى إعادة صياغة لطروحات قديمة، سبق وأن عايشناها بصورة أو بأخرى، وهذه الطروحات لا تأتي من منطلق وطني، بل هي رؤية وفق أجندة يضعها البعض لاعتقاده أنها تلبي احتياجاته، وأي طرح من خارج عقد اجتماعي متلاحم هو دعوة مبطنة للتقسيم، على قاعدة كلمة حق يراد بها باطل، لأن تجارب سابقة شهدناها خلال الحرب الأهلية لاتزال حاضرة انفجرت على نفسها وفشلت .
صحيح أن “الطائف” ليس كتابًا منزلًا لا يمكن المساس به، لكنه في الوقت الراهن يُشكل جسرًا للعبور نحو الدولة، شريطة أن تُطبق بنوده وفي مقدمها اللامركزية الادارية الموسعة بعد إعادة التوزيع الإداري للمناطق، وهو الأنسب على وصفه “ديموقراطية الطوائف” ويحمي الميثاقية ويضرب مخططات التقسيم التي لن تجلب على لبنان إلا الويلات، لذلك فإن كل من يتمسًك بـ “الوطنية” يرفض رفضًا قاطعًا هذه المخططات .
ونحن نشهد اليوم أدق وأخطر المراحل في تاريخ لبنان، يجب أن تتوحد اللغات والخطابات السياسية، والابتعاد عن طروحات غريبة عن ثقافتنا اللبنانية، وما سقط خلال الحرب الأهلية بالرغم من الاحتلالات لن ينجح بالسياسة، ولا سبيل له إلا بحرب أهلية جديدة وهو أمر غير وارد على الاطلاق، ربما “الغرائز” متفلتة نتيجة هيمنة فريق على قرار البلاد، لكنها ليست سببًا لاستيلاد “فيدرالية” قد تطحن آخر ما تبقى من لبنان ..