بقلم خالد صالح
يُقال أن والدًا يملكُ الكثير من الحكمةِ طلبَ من أبنائِه الإتيانَ له بـ “أرخص رجل”، خرجَ الأبناءُ بحثًا عن طلب والدهم، وفي إحدى المدن شاهدوا في الساحة العامة تجمهرًا للناس حول شخصين كل منهما يجلس على كرسي، الأول يُضرب بـ “الأحذية” وتُكال له الشتائم من كل حدب وصوب، والثاني تُرشّ الورود عليه وينهال المديح له من الجميع .
وعندما سأل الأبناء عن الرجلين، قيل لهم، الأول كان حاكمًا للمدينة وهذه طريقة وداعه بعد انقضاء فترة حكمه، وهذا تقليد حرصت المدينة عليه منذ زمن بعيد، أما الرجل الثاني فهو الحاكم البديل الذي سيتولى مقاليد السلطة والاحتفاء به وبمنصبه الجديد خلفًا للرجل الأول ..
فقال الأبناء بين بعضهم، الرجل الأول الذي يُضرب بالأحذية “رخيص”، لكن فات الأوان فقد اعتاد على الإهانة، لكن “الأرخص” منه هو الرجل الثاني الذي يعرف أنه سيُضرب بالأحذية وتُكال له الشتائم بعد انتهاء ولايته، لكن الابتسامة تعلو وجهه ولديه القبول التام ليكون حاكمًا ..
لا نعرفهم
منذ أن حطّت الانتخابات النيابية الأخيرة رحالها، تشهد “محافظة البقاع” بأقضيتها الثلاثة (الأوسط، الغربي وراشيا) غيابًا نيابيًا لم تعرفه قط منذ سنة 1992، إذ تجد لدى أهل البقاع صعوبة بالغة في تعداد اسماء نواب المنطقة، وإذا فعلوا تُصيبهم الدهشة عندما يعلمون أنّ النائب الفلاني صار “نائبًا سابقًا” وترتسمُ على وجوهم علامات الدهشة “عن جد .. ومين إجا محلّو” ..
تبدّل المشهد السياسي كثيرًا في محافظة البقاع، التي شهدت مناطقها تماهيًا كبيرًا مع ثورة 17 تشرين، هذا التبدّل الذي فرض غياب أحزاب ووجوه فاعلة طبعت العمل السياسي بطابعها على مدى عقود، وأتاح أيضًا وصول وجوه جديدة للندوة البرلمانية، وراهن البقاعيون كثيرًا على هذا التبدّل بأن يحمل لمنطقتهم الجديد، وأن يتحقق ما عجز عنه أسلافهم في الحقبات السابقة، لكن خيبة الأمل كانت “موجعة” لأهالي المنطقة ..
صحيح أن الظروف الراهنة تختلف بشكل جذري عن الظروف الماضية، لكن هذا الأمر ليس بـ “الحجّة” الدامغة على حصول هذا “الغياب النيابي” لا بل يراه البعض “عذرٌ أقبح من ذنب”، فالتواصل بين القواعد الشعبية وأصحاب “اللوحات الزرقاء” شبه منقطع، والادعاء بأن الظروف غير ملائمة لم يعد يمرّ مرور الكرام، فالصورة التي شكلها المواطن البقاعي في ذهنه على مدى ثلاثة عقود، يشعر بتلاشيها نهائيًا، ويسأل دائمًا : “من هم” نواب المنطقة، لا “أين هم” نواب المنطقة ؟، فنحن “لا نعرفهم” قبل أن نقول لا نراهم !!..
فشلوا جماعات وفرادى
بعيدًا عن التداول باسماء نواب البقاع (13 نائبًا)، فالتناقض الحاصل في أدائهم لا يبرر “العجز القائم” و “الغياب الساحق” عن متابعة شؤون منطقتهم، وما يقدموه من تبريرات لهذا الغياب يزيد الطين بلة، فـ “السطحية السياسية” التي يظهرونها، جعلت الناس تترحّم وتتندم على من سبقهم، فلا مواقف سياسية ولا أداء تشريعي، ولا تواصل مع الناس سواء بالمباشر أو غير المباشر، ولا اعطاء أولوية لحاجات المنطقة، جلّ ما في الأمر اطلالات اعلامية باهتة المضمون عاجزة عن “صناعة” رؤية سياسية يمكن تعميمها ..
فشل نواب البقاع في إحداث “تغيير” حقيقي يعوّل عليه لانتشال المنطقة ووضعها على خارطة الإنماء، حتى بعض المشاريع التي تم إقرارها في المجلس النيابي السابق لا ملاحقة ومتابعة لها، ولا مشاريع جديدة تقدّم، حتى في السياسة العامة، يعبرون بعكس اتجاه الهوى السياسي، والأخطر من ذلك قيام البعض بالدفاع عن ثقافات اجتماعية لا تمتّ لثقافة البقاعي وأخلاقياته، بشكل تشعر أن النوّاب في وادٍ والمواطن في وادٍ آخر تمامًا ..
أخطاء بالجملة والمفرق
لم يستطع “نواب البقاع” الجدد (9 من أصل 13 – 4 فقط أعيد انتخابهم)، من الانفتاح على المجتمع البقاعي بشكل خاص، فمنهم من التزم توجهّات حزبه أو تياره، من دون أي مراعاة لتركيبة النسيج الاجتماعي في المنطقة، ومنهم من غاب تمامًا تحت ذريعة أنه “نائب مستقل” أو “نائب تغييري”، ومنهم الذي كان خدماتيًا بامتياز قبل النيابة وحين بلغ مراده، اقفل في وجه الناس كل شيء .. حتى هاتفه !!
استشعر “المواطن البقاعي” أنه وقع ضحية شعارات فضفاضة أطلقت من باب ” التنمير” السياسي، وأن من أعطاه الثقة و “فضّله” على غيره لا مجال لمقارنة حضوره السياسي والاجتماعي بمن سبقه، وأن الأخطاء المتراكمة على مدى سنتين تتطلب إعادة النظر في الخيارات التمثيلية للمنطقة، وأن الرهان على الانقسامات السياسية الحاصلة، لن تُفسح له المجال للحصول على وكالة الناس مرة جديدة .
هذه الأخطاء المرتكبة بحق “البقاع” و “البقاعيين” أدت إلى موت الحياة السياسية فيه بصورة خطيرة للغاية، وعجز النواب الحاليين عن مخاطبة الجمهور البقاعي بخطاب متوازن سياسيًا واجتماعيًا وإنمائيًا، وضعهم مبكرًا في خانة “المحاسبة” والبقاعي معروف عنه قدرته عليها، هذه الأخطاء الفادحة التي أتت في ظل “ركود سياسي” زادت من حدة الركود، وظهر الغياب النيابي جليًا للناس، الذين بدأوا يعدون العدة للانتخابات المقبلة، رافعين شعار لن نسمح لهم بالعبث بعقولنا مرة جديدة بشعارات تحرّض البقاعيين بعضهم على بعض ..