بقلم خالد صالح
تسعة أشهر انقضت على “طوفان الأقصى” وما استتبعه من حرب بربرية ومجازر يندى لها جبين العالم يرتكبها العدو الاسرائيلي كلّ يوم بحق الشعب الفلسطيني المقاوم، أمام مرأى ومسمع العالم الذي يتباهى دومًا بالدفاع عن حقوق الإنسان، تسعة أشهر مرّت ولبنان على خط النّار بالفعل لا بالقول، ويدفع “فاتورة” مناصرته للقضية الفلسطينية كالسياق التاريخي لها منذ الـ 1948 .
لطالما اعتبرت “الطائفة السنية” أن القضية الفلسطينية هي قضيتها الأساسية بعد رسالتها الوطنية التي تأتي في المرتبة الأولى، ولهذا الأمر أبعاد أيديولوجية ترتبط دينيًا وعقائديًا بهذه االقضية، ودائمًا ما كانت تتفاعل وتناصر وتؤيد كل أشكال المقاومة في وجه عدوٍ غاصب يحتل الأرض ويقتل الأهل ويدفع بالمتمسكين بأرضهم للنزوح، ويتوسّع في نزعاته الاستيطانية بشكل لا يقيم وزنًا لأي قوانين دولية أو قرارات أممية أو أعراف إنسانية .
ولقد شكّل التنوع والتعدد التاريخي داخل الطائفة السنية تماهيًا عن الآخرين، فهي لم تكن يومًا “كتلة” طائفية سياسية واحدة، بل توزعتها قيادات وزعامات وبيوتات، فتلك المتواجدة في بيروت تختلف عن تلك التي في طرابلس أو عكار، والاثنتان تختلفان عن تلك المتواجدة في صيدا أو البقاع، لكن هذا التناقض الفريد هو بسبب طريقة الفهم لإدارة الدولة وبنائها والنهوض بها، لكنه لم يخرج أبدًا من إطار مناصرة القضية الفلسطينية والمناداة دومًا بحقوق الشعب الفلسطيني .
حملات وراءها “إنّ” !!
طفت على واجهة الأحداث منذ أسابيع قليلة حملات مبرمجة تستهدف شخصيات سنية (دينية أو سياسية أو اجتماعية) نتيجة المواقف المؤيدة للمقاومة، وتأتي هذه الحملات في محاولة “لجم” هذه الوجوه أو تأديبها بصورة غير مباشرة، إذ رأت أن التماهي مع “مفهوم مقاومة العدو” إعطاء “حزب الله” المزيد من الامتيازات للمزيد من بسط سطوته على الدولة ومؤسساتها، وهذا لا يتناسب مع مسألة المواجهة المفتوحة مع الحزب .
هذا الحملات بدأتها مجموعة من الأقلام المعروفة وباشرت بتسليط الضوء على المفتين في المناطق، وقد انطلقت شرارة هذه الحملات بعد الموقف الذي أطلقه مفتي زحلة والبقاع الشيخ علي الغزاوي أثناء تشييع الشهيد “أيمن غطمة” في بلدة “لالا” في البقاع الغربي، حين أشهر البندقية وهو على المنبر، معتبرًا أن مقاومة العدو واجب ديني وأخلاقي لا حياد عنه، فثارت ثائرة الممتعضين من هذا الموقف وبدأت الأقلام بسكب “سمومها” ودعوة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى وضع خارطة طريق ملزمة للمفتين والمشايخ في كل المناطق اللبنانية لإعادتهم إلى “بيت الطاعة” .
حقيقة دامغة
كانت “الطائفة السنية” ولاتزال هي الشعلة المضيئة في الريادة الوطنية، ولطالما كان دورها يستند إلى أبعاد وطنية – عروبية خالصة، تنظر إلى قضايا الوطن على أنها أولوية مطلقة، تبني التوازنات السياسية وتحوّل الزوايا الحادة إلى مساحات للتلاقي، هذا من جهة، ومن الجهة الثانية شكلت “القضية الفلسطينية” البوصلة لها في حمأة الصراعات الاقليمية المفتوحة، واعتبرتها قضيتها الأساس، فلم تستخدمها كـ “شمّاعة” تُعلق عليها مصالحها وأهدافها، فهي “قضية حق” وليست قضية للمتاجرة .
هذا الموقف أقلق البعض ممن يريدون “استلحاق” الطائفة السنية برؤيتهم واستراتيجياتهم، فهو يُعاكس سياستهم وفي الوقت عينه يؤكد أن الطائفة السنية “متحررة” من التبعية لقراراتهم، ويزيد من ارباكهم الحاصل على الساحة اللبنانية، لذلك بدأوا بالتصويب على مفتيي المناطق بهدف تطويعهم وإلزامهم بخطاب لا يحاكي الواقع العاطفي للطائفة على مساحة الوطن والمتغلغل فيهم حبًا وتعلّقا بـ “فلسطين” دينيًا وعقائديًا وعروبيًا .
سقوط الراهانات
لم تنجح قراءة البعض في “استيلاد” زعامات سنية تماشي تطلعاتهم، خصوصًا فيما يتعلق بفلسطين، فالوجدان السنّي متعلّق بـ “فلسطين” العربية وبـ “القدس” الشريف و “أقصاها”المبارك، وهذا خارج أي نقاش أو مفاضلة، ولن يكون “سلعة” للتجاذب السياسي، داخليا وإقليميًا، لأنها قضية تتعلق بالثقافة الجماعية والمجتمعية للطائفة السنية، فباءت كل الرهانات على هذا بالفشل الذريع، وأدى هذا الفشل إلى سقوط كل أشكال الفتن والصراعات والنعرات والعصبيات، واستعادت الطائفة “الراية” بكل زخم، فأسقطت بهذا محاولات الشرذمة واستعاد السنة “لحمتهم” بغض النظر عن موقفهم من “حزب الله” وسياساته على المستوى الداخلي .
وشكل موقف الطائفة السنية في لبنان من “حرب غزة” والجبهة المفتوحة على الحدود الجنوبية، آخر خطوة عملانية في وأد “الفتنة السنية – الشيعية”، وضرب مخططات البعض والرهان على حصولها لأضعاف الطائفتين، وهو بصورة أو بأخرى يعتبر “رسالة تحرر” من الطائفة إلى كل من يريد استتباعها بمشاريع لا تمتّ إلى ثقافتهم ووعيهم بصلة .
إن تبنّي الطائفة السنية في لبنان للقضية الفلسطينية وهي قضية أممية محقة وعادلة هو أمر يتقدّم رؤى البعض وأهدافهم المرسومة “تحت الطاولات”، فالعدو المطلق هم “اليهود” وكيانهم الغاصب، والسنة على الرغم من تكتلاتهم السياسية والاجتماعية أوفياء لهذه القضية، والمزاج السنّي العام هو مع مقاومة العدو ومناهضة مشروعه الإحتلالي والاستيطاني، وهو ضد المجازر البشعة التي يرتكبها بحق “أهل الدار” لدفعهم للنزوح عنها، ولن يرضى بالتخلّي عن معتقداته لإرضاء فلان أو علتان، والإطاحة برشدهم وأخذهم إلى غير موقعهم التاريخي ..