بقلم خالد صالح
بيروت
على وعدك يقف الشّاعر
شفتاكِ من ماءِ محبةٍ ونداء
وفمي فنجان قهوة “داشر”
يفورُ ويغلي وأنتِ كالنبع
تجرين عذبة ولا تلتفتين ..
أخلعُ مائي وأتيمّمُ بك .. أزرعُ يديكِ في صدري وأمضي، قميصي مفتوحٌ أمام المارة، من دون صوتٍ أتمتمُ قصيدة غريبة المعنى، أتناولُ عينيكِ كلّ صباح وأغسلُ وجهي، أسكبُ القليل منكِ على رأسي، أردّد كلمات حبّ لا يعرفها الناس حتى تسيلين على جسدي، كعطرٍ ملائكيّ ازرق ..
يا بيروت أخلعُ مائي وأتيمّمُ بكِ، أشتهي أن أتيمّمَ بك وأعودُ طفلًا يتيمَ البلاد، حتى لا تصيرُ الحربُ بردًا وسلامًا على الطغاة، بيدي سأطفئ الحرب كما لو أنني ساحرٌ، أعيدُ الحياة إلى حاراتها، أنهضُ البيوت من أنقاضها، أتعبُ وأجلسُ على رصيف أخير كحصانٍ معافى، أتأمّلُ هذا الصف الطويل من القتلى، هذه الأعين التي لا تجف، حريقُ الأشجار الكبير والطريق الذي فقد معالمه، أحسبُ ما ينقص الحدائق من ورد وعشاق، ما ينقص الناس من خبزٍ وفرح ..
يا بيروت .. أخلعُ مائي واتيمّمُ بكِ، على “طاق” جلدي ألبسكِ، في الشتاءِ عندما تُمطر ولا تمطر، في الخريفِ تهرهر وريقات أخيرة لتتجدد الشجرة، في الربيع تتفتحين مع كلّ زهرة احتار ولا أعرف من أين أقطفك، في الصيف في عقر “آب اللهاب” نشتعلُ ونذوب في جسد واحد، في مرجلك أنصهر وأتبخّر ونصير سماءً واحدة، تختلط فصولنا وتزيننا نجوم كثيرة تحوّلت سوداء وهي تتشح بغبار رمادك ..
يا بيروت .. أخلعُ مائي وأتيمّمُ بكِ، لو كنتُ قريبًا منكِ، لخلعتُ مائي ونمتُ فيك كما ولدتُ، حفرتُ حفرة تتسعُ غيمتين، ووشوشتُ الأرضَ عن صبر الموتى، أحطتُ الدّمار بجدولين صافيين وذهبتُ عميقًا في الجذور، أنتِ تلك الزهرة تمنحُ عطرَها وألوانها قبل أن يأتي الربيع، لو كنتُ قريبًا، لأخبرتُ المساء عن كنز النجوم المفقود في الخرافة وعن المجرّات البعيدة اللواتي يرقصن في السماء ..
يا بيروت .. يا صرخة النداء وضمير الأحياء، سأضحك من أجل أن يبرأ العنب قبل أن يغادرَ الصيف، لا أبرأ منكِ يا “ستّ الدنيا”، حتى تكتملَ دورة نبيذ دمائنا في الأوردة، وتسامحينَ الليل على كذبةِ النوم الكبرى، الحزن فيكِ وعليك يبعثُ عني البشائر والرسل، وأنا أرفعُ عصاي وأهشّ على القدر ..
يا بيروت، أخلع مائي وأتيمّمُ بكِ، تيمّمتُ مرّة بأوجاعك واكتشفت نزيف اللهفة، لم تتكسّر المويجات خارج شاطئك البعيد، عاتبتُ الرمال .. لم تصدقني حين بكيت، كلّ قطرةٍ وريد مقطوع، كلّ وريد نهر لا يعرف أين يصب .. قشة يأخذني طوفانكِ، مددت يدي ولامستُ شاطئ المستحيل لم يكن قليلًا عليكِ، كنتِ أجملَ من الهزائم ومن النزيف، لم تذهب الأشجار إلى حرائقها، مرّت الكارثة على أحلامنا واقتلعت براعم الورود، مرّت وعلمتني أن الجسور يمكنها القدوم إليكِ، تذهبُ بك ثم تعود تتأرجح بكِ، تستعيدُكِ من الهزائم، كأنك طفلُ كلّ زمان وكلّ بشارة ..
يا بيروت .. أخلعُ مائي وأتيمّمُ بكِ .. لو يهطلُ الوقت كما نشتهي ! لارتديتك وردة وردة، أو يذهبُ من دون أن تطاردَه عصا السنين لارتديتكِ كما تشتهي الروح، أو تعرّيتُ من الشيب وراقصتكِ كأغنية، قد يطيش قلبي بعد وقار معمّر ويستعيدُ بعض طفولةٍ يستحقها، أنتِ على جباهنا الشامخة قمرٌ مكتمل، وأنا نسمة تائهة في شوارعك لامست وجهكِ، حتى آخر ذرّة توهّج فيه، حتى آخر صرخة وجع أطلقها طفلٌ مبتور الأعضاء ..
يا بيروت .. أخلع مائي وأتيمّمُ بكِ، لو كتب الشاعرُ ما يزدحم فيه ! لما عرف القارئ الّليلَ من الصّباح، الطلاسم تأخذ من القصيدة أكثر من حقها، أخفّف الظلام في القصيدة، أصابعي من نور، والنجوم لا تدع الأشجار تنام في العتمة، موجة موجة تقلّبني الحياة، كأمواجك التي تحيط بـ “المرفأ” الجريح، أنا الماءُ يجري في شواطئك من عين المريسة إلى الرملة البيضاء، الماءُ المحتار في غيمة، ماءٌ يغسل أقدامكِ الملوّثة بالدماء، ماءٌ يسقي القلوب الحزينة والأرواح الهائمة، بعد نهار شاق من “الموت” اسمه “الرابع من آب”، ماء يدخل في مسام سواعد دائمة الكدح، حتى لا تتشقق كأرض بور الماءُ الذي يحب ولا يكره، ماءٌ يلتبس بالطين والحجر، فيتحول إلى سماء في الشتاء، وغيمة رقيقة في الصيف، تخفّفُ من نار أوجاعنا الحارقة ..