“طوفان”… الطوائف اللبنانية!

بقلم جوزاف وهبه

من وحي ما يجري فوق مساحة هذا الكوكب، يصحّ القول بأنّه ثمّة “طوفان” قد ضرب الطوائف اللبنانيّة، مسجّلاً علامات فارقة في جسم كلّ طائفة، ما يشير إلى استحالة الوصول إلى ما يُسمّى “الدولة”، والتي سبقتنا إليها منذ أكثر من نصف قرن من الزمن معظم دول الغرب، والكثير من دول الشرق.. أمّا نحن، فقد بقينا في القاع نفتّش عن ما ورائيّات ومخاوف وهواجس تكاد لا تنتهي، تجعلنا معلّقين بين التراب والسماء في صراع أبدي تاريخي يمتدّ إلى آلاف السنين، يمتدّ إلى سليلة حروب القبائل بحثاً عن واحة تفيء إليها ثلاثيّة عناصر الحياة البدائيّة:الماء والكلأ والنار!

نبدأ بالطائفة التي تتوهّم القوّة بالسلاح وثقافة الموت، في صراخها المستمر “شيعة شيعة شيعة”، وكأنّها بذلك تعود بالتاريخ إلى أكثر من 1400 سنة، مستعيدة واقعة “مقتلة الحسن والحسين”، طالبة الثأر من كلّ مَن يعترض أو يعارض، رافعةً تهمة التخوين والعقاب بحدّ السيف: مَن ليس معنا، فهو ضدّنا. ومَن هو ضدّنا، مباح دمه.من هنا بالذات تأتي سلسلة الإغتيالات التي لم توفّر أيّ طائفة أخرى. لم توفّر أهل الرأي الآخر، ولا ثقافة الآخرين، في سياسة هوجاء تقوم على الترهيب والترغيب.على الحلال والحرام.على الخطاب الذي يتلبّس لغة الشياطين والقدّيسين، لغة الموروث الديني – السياسي، لغة التأليه والخضوع المطلق للمرشد الأعلى، للمهدي المنتظر..ولكلّ الغيبيّات التي تخدم المصالح السياسية لملوك الفرس والخميني والخامنئي والحرس الثوري. وكيف تردّ لنا إيران هذا الجميل على كلّ هذه التبعيّة؟مزيد من الصواريخ، وعبارة “اليد التي ستمتدّ إلى لبنان، سوف تُقطع”: تُرى، متى يحين أوان القطع؟..

ثمّ يأتي “وليد جنبلاط” في التصاقه الوجودي بطائفة الدروز كأقليّة لم تتمكّن، رغم الجهود الوطنية الجبّارة للزعيم الراحل كمال جنبلاط، أن تتجاوز “عقدة” أنّها أقليّة، تارة في المحيط السنّي، وطوراً في المدّ الشيعي.وما أن يستشعر وليد جنبلاط بالخطر حتّى يقوم باستدارته الشهيرة ببراعة خاصّة ومميّزة تؤهّله للإنتقال السلس من “يا حوتاً لفظته البحار” إلى واقعيّة التعامل مع نظام الأسد.ومن التهديد بالإنشقاق عن حكومة فؤاد السنيورة إذا لم يتّخذ القرار الرسمي بإزالة معالم دويلة حزب الله في المطار وفي شبكة الإتّصالات..إلى الجلوس جنباً إلى جنب مع الشيخ نعيم قاسم، متقبّلاً التعازي والتبريكات باستشهاد القائد الأكبر فؤاد شكر.وليد جنبلاط الحالي في ذروة تأزّمه:قسم من الطائفة يقاتل تحت لواء إسرائيل (مجدل شمس نموذجاً)، قسم ينتفض ضد بشّار الأسد الحليف التقليدي للممانعة (السويداء وغيرها..)، وقسم قي لبنان تائه خلف استدارات “الزعيم الخائف” على المصير والمسار. قلق لا نهايات له في ظلّ غياب أثر الدولة القويّة المركزيّة التي تتجاوز الطوائف والمذاهب وتعايش الجبل والضاحية والحارة الجديدة وبكركي وعروبة طرابلس وفينيقيّة كسروان وفارسيّة الجنوب والبقاع!…

المسيحيون وجدوا ضالّتهم ومجدهم الغابر في تطويب القديس مار إسطفان الدويهي.كأنّهم بذلك يستسلمون إلى القدر والأعاجيب، علّ عجيبة تُعيد الرئيس إلى كرسيّه في قصر بعبدا، وعلّ عجيبة أخرى تُعيد لهم ما خسروه في دنيا الحكم من مراكز ومواقع ونفوذ.وفي خضمّ انتظار “زمن العجائب” يتنازع الأفرقاء “شدّ اللحاف” كلّ إلى صوبه:سليمان فرنجيّة لا يجد بديلاً لفخامته “يملأ مركز الرئيس”.جبران باسيل يضرب كلّ مَن حوله، مستعيناً بسيف المؤسّس الهرم:الياس بو صعب، ثمّ إبن الأخت ألان عون، وقد يطال الحدّ كلّاً من ابراهيم كنعان وسيمون أبي رميا وأسعد درغام.سمير جعجع لا يفارق ثوابت زنزانته، لقد سبق الجميع إلى طريق الجلجلة، ويخوض نوعاً من الحرب المقدّسة علّه يحمي ما بقي من لبنان الأرز وفيروز ووديع الصافي والميجانا والعتابا.سامي الجميّل والآخرون يمارسون فنون المعارضة كخشبة نجاة من الطوفان الذي لن يستثني أحداً!..

أمّا الطامة الكبرى، فهي مع الطائفة السنيّة التي خسرت قائدها ولم تربح شيئاً.دار الإفتاء، ذهاباً وإياباً إلى عاصمة السنّة في السعودية، دون جدوى ودون أن يلوح في الأفق “منقذ” يمكن أن يضاهي الشهيد الحقيقي رفيق الحريري.كلّ أدوات الزعامة السنّية صدأت، ولا تفي الحاجة جولات وبيانات وقفزات أحمد الحريري مستظلّاً ما تيسّر من تيّار المستقبل، كما بات مكلفاً الإنتظار الطويل للرئيس سعد الحريري..

ما مضى قد مضى، وما حدث قد حدث. نحن دخلنا في فصل جديد من الرواية، ويمكن للبطل في خواتيمها أن يموت أو أن يتحوّل إلى مجرّد أيقونة بهيّة.نحن بارعون في خلق الألهة، ولو تحوّلنا إلى حبّات من التمور، يأكلوننا هم بدل أن نأكلهم نحن!..

“طوفان الأقصى” قد ينتهي بخاسرين ورابحين، بعد أن تفيض القبور بالضحايا من النساء والأطفال والرجال.أصلاً، لم يكن للعدد يوماً من قيمة في حساباتنا.. أمّا “طوفان الطوائف اللبنانيّة” فلا قعر له، إن لم تسقط الطوائف في النفوس كما في النصوص، إن لم نخلع عباءة التاريخ بمظلوميّته وأمجاده.إن لم نوقف اللطم والنحيب على ماضٍ لا ناقة لنا فيه ولا جمل.إن لم نلبس موضة العصر الحديث، بكلّ نزقها وتناقضاتها.بكلّ جنونها وعسر ولادتها.

نحن بحاجة إلى ولادة قيصريّة، من الخاصرة أو من أيّ مكان أشدّ إيلاماً ووجعاً..مرّة واحدة وأخيرة!

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top