بند واحد في جدول الأعمال… إهانة رفيق الحريري. النائب والوزير السابق باسم السبع يروي قصة لقاء «التمديد للحود» بين رئيس الوزراء اللبناني والرئيس السوري وقادة أجهزة استخباراته (2)

تنشر «الشرق الأوسط» الحلقة الثانية من كتاب السياسي اللبناني باسم السبع، ويروي فيه فصولاً من العلاقة الشائكة بين رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري وأركان الحكم في سوريا. يحمل الكتاب عنوان «لبنان في ظلال جهنم – من اتفاق الطائف إلى اغتيال الحريري» (من إصدارات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر).

شغل السبع لسنوات مستشاراً لرفيق الحريري، وفاز بعضوية مجلس النواب اللبناني من العام 1992 وحتى العام 2009. كما شغل منصب وزير للإعلام في حكومة الحريري بين العامين 1996 و1998. وهو ينتمي إلى «تيار المستقبل» ومن أقطاب «تيار 14 آذار».

يتطلّب ذهاب السياسيين إلى دمشق المرور الإلزامي في بلدة عنجر. أقيم في تلك البلدة البقاعية الأرمنية، لأكثر من ثلاثين سنة، المقرّ الخاص لقيادة المخابرات السورية على مقربة من الحدود الشرقية. هذه القيادة تعاقب عليها اللواء محمد غانم من العام 1976 إلى العام 1982، واللواء غازي كنعان من العام 1982 إلى العام 2001 واللواء رستم غزالة من العام 2001 إلى موعد الانسحاب العسكري السوري بعد اغتيال رفيق الحريري في العام 2005.

اتّخذ اللواء غانم من بيروت أيضاً مقرّاً لقيادته، ليكون على قرب من قيادة قوات الردع العربية التي تشكّلت في القمة العربية في القاهرة للإشراف على قرار عربي بإنهاء الحرب الأهلية. بين العام 1976 والعام 1979، انسحبت الوحدات العسكرية العربية المشاركة في قوّات الردع تباعاً، وانفردت القوّات السورية بالساحة اللبنانية، بعديدها الذي بدأ بـ25 ألف جندي ووصل إلى 40 ألفاً.

دخول القوّات السورية إلى لبنان سبق إنشاء قوّات الردع العربية. تمَّ تحت غطاء جيش التحرير الفلسطيني بدعوى تصحيح مسار منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات. حصل الدخول على غطاء شرعي في مارس (آذار) 1976، من خلال طلب رسمي تقدّم به الرئيس اللبناني سليمان فرنجية من الرئيس حافظ الأسد، للتدخّل عسكريّاً ووقف هجمات المنظّمات الفلسطينية والميليشيات اليسارية ضدّ المناطق المسيحية.

(…) تسلّم غازي كنعان مسؤولية المندوب السامي السوري في لبنان، بعد أشهر قليلة على مذبحة مدينة حماة السورية، التي أسفرت عن آلاف القتلى واجتثاث حركة الإخوان المسلمين (…). بقي كنعان في هذا الموقع طوال عشرين سنة، متّخذاً من منزل معزول عن الأحياء السكنية في بلدة عنجر في البقاع اللبناني، مقرّاً لقيادته في موازاة المقرّ الدائم في الرملة البيضاء الذي اعتُبر لسنوات طويلة بمثابة الممثلية الأمنية لعنجر في بيروت.

زرت عنجر منفرداً وبرفقة الحريري مرّات عدّة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين. توقفت في تلك الزيارات على سلوك كنعان معي، فلم أسجّل أي خروج على حدود اللياقة ومحاولة الاستقواء بموقعه في تعامله السياسي. لكنني لاحظت تعمّده في تكريم بعض الزائرين وتحقير آخرين، بينهم نوّاب ووزراء ورجال أعمال ودين.

من النادر جدّاً، لأي مسؤول لبناني أو شخصية تعمل في الشأن العام، أن يذهب إلى دمشق، من دون أن يمرّ بديوانية اللواء في عنجر، سواء أكان كنعان حاضراً أم غائباً عن الديوانية. التقيت عنده رؤساء كتل نيابية ووزراء من الصفّ الأوّل، وقادة أمنيين، ورجال قضاء، ومشايخ ومطارنة ومفتين، وأساتذة جامعيين، ومديري مصارف وسيّدات أعمال وخلافه من طالبي الرضا والتوسّط لتمرير مخالفة في وزارة أو إدارة رسمية.

توقّفت ديوانية غازي كنعان عن استقبال الزائرين أوائل العام 2001، بعدما أصدر الرئيس بشّار الأسد أمراً رئاسيّاً يعيده إلى دمشق. وولّى مكانه رستم غزالة بإسنادٍ مباشر من آصف شوكت بعد تعيينه نائباً لمدير الاستخبارات العسكرية، أحد أهم فروع أجهزة المخابرات في سوريا، والباب الذي شرع أمامه لأن يصبح شريكاً مضارباً للواء كنعان في الملفّ اللبناني.

آصف شوكت، شخصية أحاطها الالتباس منذ بدأ اسمه يتردّد في الصالونات الشامية، كضابط يطمح للزواج من بشرى ابنة حافظ الأسد. (…) نافس آصف شوكت، بعد أن اشتدّ عُوده في بداية عهد بشّار، غازي كنعان على الملفّ اللبناني، ووجد في رستم غزالة ضالّته، لتحقيق مأربه في إبعاد كنعان، الذي اشتغل على التقدّم من بشّار بشهادات حسن سلوك، تلبّي أوامره المتعلّقة بلبنان، ومنها ممارسة الضغط على الحريري لانتخاب لحّود رئيساً ثم التمديد له ثلاث سنوات.

بقي اسم آصف شوكت بالنسبة إليّ، محلّ استطلاع إلى حين تجرأ إميل لحّود على مطالبة بشّار الأسد بتغيير غازي كنعان، والحديث عن التحاق اللواء جميل السيّد بخيمة آصف في مرابض آل الأسد.

كان لهذا الاسم وقع القنبلة الصوتية في حياتي الشخصية والسياسية، ألقاها شاب لبناني في منزلي أوائل العام 2001 بعد فوزنا في الانتخابات النيابية، وتأهّل رفيق الحريري لإعادة تشكيل حكومته الأولى تحت وصاية بشّار الأسد.

حضر شاب إلى منزلي في محلّة بئر حسن، حيث أستقبل يوميّاً الأصدقاء وطالبي الخدمات في خلال فترة الصباح. طلب الشاب من مرافقي مقابلتي على انفراد، بعد أن أنهيت لقاءاتي الصباحية وقمت بتبديل ثيابي استعداداً للمغادرة. استقبلت الشاب في الصالون، فيما وقف المرافق عند المدخل بحالة استنفار تأهّباً لأي طارئ. الضيف يزورنا للمرّة الأولى ولاحظ أن طلبه الانفراد بي أثار حساسية مرافقي، فبادر إلى معالجتها ملتفّاً على نفسه كاشفاً عن وسطه قائلاً: «أنا في ضيافة الأستاذ لرسالة سياسية. لا أحمل أي سلاح، أريد الاجتماع به على انفراد».

الشاب طويل القامة، حنطي اللون، رياضي الجسم، أنيق الملبس، لهجته لبنانية بخلفية جنوبية. ارتاح إلى الخلوة واسترسل: «ليس المهم أن تعرف اسمي (قال إنه يُعرف باسم خالد). المهم أن تعرف هدف رسالتي (…) أنا أستطيع بكل تواضع أن أفتح للرئيس رفيق الحريري باباً على اللواء آصف شوكت (…) علاقتي باللواء آصف أكبر مما تتصوّر. أنا معه من أهل البيت (…) ويمكنني أن أقوم بدور إيجابي لمصلحة الرئيس الحريري (…) هو الآن أقرب شخص إلى بشّار، والوحيد الذي يمكن أن يفتح الأبواب للرئيس الحريري. جرّبني ولن تخسر. دور خدّام انتهى، والعماد الشهابي استقال، واللواء كنعان على الطريق».

(…) هرعت إلى قريطم. مجرد أن أنهى الرئيس (رفيق الحريري) اجتماعاً في مكتبه، دخلت عليه وأقفلت الباب (…) رويت له بالتفصيل المملّ ما حصل (…) طلب السنترال: «اطلب لي يا ابني اللواء كنعان… سنرى ردّ فعله. اللواء كنعان على الخط». أبلغه الحريري: «باسم سيتوجّه إلى عنجر لإطلاعك على أمر مهمّ». رد كنعان أنه سيكون خارج المكتب ويفضّل ذهابي للقاء العميد غزالة في مكتبه. «سأتصل به فوراً وأبلّغه انتظار باسم».

توجّهت إلى مقرّ المخابرات السورية في الرملة البيضاء. وجّهني عنصر أمني للقاء غزالة. تقدّم لاستقبالي وجلسنا أمام مكتبه وأحدنا في مواجهة الآخر. كرّرت الرواية بتفاصيلها. انتقل إلى خلف المكتب، وطلب اللواء كنعان على الخط العسكري وقوفاً. حمل السمّاعة بيد وخصص الثانية لتحية عسكرية استمرت طوال المكالمة. أطلعه على التفاصيل وراح يردّد: «أمرك سيّدي… أمرك سيّدي». استدار نحوي قائلاً: «راجع لعندك هذا الكلب بكرا (غداً)؟ … شكراً لتعاونك معالي الوزير. أتمنّى أن تستقبله وتطلعني إذا كانت هناك مستجدّات».

حزمت قلقي وخرجت قاصداً قريطم من جديد. وضعت الحريري في تفاصيل الاجتماع، وعدت إلى منزلي أنتظر قدوم اليوم التالي والشاب خالد. وصل خالد بعد الانتهاء من استقبالاتي الصباحية. فتحت له الباب في حضور زوجتي. ما كادت قدماه تطأ مدخل الصالون حتى وجدت رستم غزالة يقتحم مدخل المنزل مع شابين مسلّحين، فيما أنا أهمّ في إقفال الباب. انقض عليه بعصا غليظة. أشبعه ضرباً على رأسه وظهره وطرفيه بما ملك زنده من قوة. طلب إلى مرافقيه «نقل الكلب إلى السيارة… سيرى ماذا يعني التطاول على أسياده». شكرني وغادر مسرعاً، وتركني في حالة ذهول، قادتني على وجه السرعة إلى قريطم.

لم يتوقّع الحريري أن يكون ردّ فعل رستم غزالة بهذا الشكل. أبديت خشيتي من أن أكون قد تورّطت في صراع بين جناحي مخابرات سورية. اتصل بغزالة مستفسراً، وطلب مني أن أذهب للقائه. وقف وراء مكتبه وبيده العصا التي هاجم بها غريمه، وأغدق عليّ كلمات الشكر والثناء. أوضحت له هاجسي ممّا حصل، فقال: «لا داعي للخوف، لقد نال جزاءه ولن تقوم له قيامة قبل عشر سنوات، إلى أن يتعفن في السجن ويأكله الدود». اطمئن، أصبح في عهدة الشرطة العسكرية. هو شخص نكرة لا علاقة له مع أي شخص في القيادة.

لازمني القلق أشهراً عدّة وشعور بالذنب مما حصل مع الشاب خالد. هل تمت تصفيته أم أنه فعلاً نُقل إلى السجن؟

(…) طوى الانغماس في المتغيّرات السياسية وما اقتضته من مواجهات إعلامية، قصة هذا الشاب عن جدول اهتمامي، إلى حين الإعلان عن تشكيل اللواء غازي كنعان، لتولّي مسؤولية الأمن السياسي في دمشق، وتسليم مَهمّات المندوب السامي في لبنان لمساعده رستم غزالة. أحدثت تسمية غزالة لترؤس جهاز الأمن والاستطلاع للقوات السورية في لبنان، تعديلاً في حسابات رفيق الحريري، الذي وجد في التعامل مع كنعان تكاملاً لعلاقته بالعماد حكمت الشهابي وعبد الحليم خدّام. انسحب الشهابي من المشهد العسكري والسياسي ورفض التمديد له في هيئة رئاسة الأركان في العام 1998، مع الانتفاخ المتدرج لتدخّل بشّار الأسد في إدارة شؤون السلطة، والتراجع المدروس لدور والده.

(…) احتفل رستم غزالة بالجلوس على عرش عنجر، وبقي يتقبّل التهاني لمدّة ثلاثة أيام في دارة تبعد مئات الأمتار عن المقرّ الذي أقام فيه كنعان زهاء عشرين سنة. نشطت مراكز المخابرات السورية في الحمراء والضاحية الجنوبية وطرابلس والمتن الشمالي، في استنفار القوى الحزبية اللبنانية وشخصيات اقتصادية وقضائية وأمنية وإعلامية، للقيام بواجب التهنئة والانتظام في صفوف طويلة لنيل بركة ولي أمر اللبنانيين الجديد.

أما كنعان، فكانت له جولات وداعية وحفلات تكريم رافقه إليها غزالة، بدأت في القصر الجمهوري، حيث قلّده الرئيس إميل لحّود وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط كبير «تقديراً لعطاءاته من أجل لبنان»، ونظّم له الحريري لقاءً تكريميّاً في السراي الحكومي حضره إلى غزالة، أمين عام مجلس الوزراء سهيل البوجي، ومحافظ بيروت يعقوب الصراف ورئيس بلدية بيروت عبد المنعم عريس، الذي سلّمه «مفتاح مدينة بيروت عربون وفاء وتقدير». ومن السراي توجّه كنعان إلى وزارة الدفاع في اليرزة، حيث قلّده وزير الدفاع خليل الهراوي وسام التقدير العسكري من الدرجة الفضية.

(…) علم الحريري أن قرار إبعاد كنعان، لم يكن بعيداً من النتائج السرّية للقمة اللبنانية – السورية، وتقاطعت عليه مصالح إميل لحّود وجميل السيّد وآصف شوكت ورستم غزالة. عبّر لحّود عن انزعاجه من دور كنعان في الانتخابات النيابية، ومشاركته الحريري احتفال بلدة الخيارة في البقاع الغربي. وترجم الانزعاج بكلام مباشر مع الرئيس بشّار يطالبه بتغيير كنعان، فيما كان جميل السيّد يحفر مع شوكت «لإعادة غازي إلى حجمه الطبيعي».

خصوم الحريري في المعادلة اللبنانية – السورية المشتركة، اجتمعوا على قصّ أجنحة كنعان مستفيدين من تقلّص دور خدّام وانسحاب الشهابي. أسقطوا بيدقاً سوريّاً مقرّباً منه، وأعدّوا له بيدقاً للهجوم والتواطؤ اسمه رستم، مؤهّل بصفات الابتزاز السياسي والمالي والأمني لأداء أقذر الأدوار.

بعد أيام على تكليفه، قصد غزالة الرئيس الحريري بطلب خاص. أرسل إليه أبو طارق فعاد بلائحة أدرج فيها حاجات القيادة الجديدة الملحّة. تأمين منزل لإقامة غزالة في بلدة شتورة وتأهيل الطريق إليه، وإنشاء مراكز حراسة أمام المدخل، وتوفير مستلزمات الإقامة من غرف نوم وصالونات ومكتب وأجهزة تبريد وتلفزة وكل ما يتطلبه منزل لقائم مقام بشّار الأسد في لبنان.

(…) ارتاح غزالة في منزله الجديد واعتمده مقرّاً لتأليب المواقف على الحريري، من دون أن يضع أي اعتبار أخلاقي لإقامته في البيت الذي وُهب كلّ ما فيه من الحريري.

تسنّى لي التعرّف على هذا البيت أواخر العام 2004، في طريق العودة مع الحريري من دمشق، بعد أسابيع على محاولة اغتيال مروان حمادة بسيارة مفخّخة. استقبلنا غزالة بحرارة استخدمها لنفي أي علاقة له في العمل على التمديد للحّود، وغلّفها بكلام مباشر عن محاولة اغتيال حمادة، وتأكيده أن سوريا يستحيل أن تغطي جريمة كهذه، على الرغم من المواقف المستجدة لوليد جنبلاط والحملات التي تستهدف دور القوّات السورية ودعواته المتكرّرة إلى إعادة الانتشار، ملاحظاً أن «معالي الوزير السبع يدلي بمواقف عنيفة لكنه لا يهاجمنا…». علّق الحريري في إطار مازح قائلاً: «ماذا يمكن أن نفعل يا بو عبدو… صوفتكم حمرا مع الدروز».

شيّعنا غزالة إلى خارج المنزل، حيث اصطف الموكب وفتحت الباب الأمامي للسيارة التي يقودها الحريري، منتظراً انتهاءهما من حديث على الواقف استمر نصف دقيقة. ناداني بعدها غزالة قائلاً: «أخ باسم، كن مطمئناً. لا تخف من شيء. لن نسمح أن تتعرض لأذى ما فعلوا مع مروان. أخوك أبو عبدو موجود ساعة تريد».

رافقتنا الدهشة إلى السيارة. قال الحريري: «هل سمعت ماذا قال…؟ مجنون هذا الرجل! إما أنه غبي أو أنه يهدّدك». أجبت: «الكلام موجّه إليك دولة الرئيس على طريقة احكي مع الكنّة تسمع الجارة».

نال غزالة نصيبه من أمجاد المخابرات السورية في لبنان، وحصد ثروة لم تنحصر بما جمعه من الحريري وسياسيين ورجال أعمال وطالبي خدمات، وقد كان يقبض شهريّاً من الحريري مبلغ خمسين ألف دولار، وفق معلومة عبد اللطيف الشمّاع المؤتمن على توزيع هبات الحريري ومساعداته، بل تخطّتها إلى المشاركة في نهب بنك المدينة، لصاحبه السعودي اللبناني الأصل عدنان أبو عيّاش ومديرته التنفيذية رنا قليلات (…).

أصابت فضيحة بنك المدينة اللواء غازي كنعان بشظايا رافقته إلى دمشق لتسلّم مهامه رئيساً لجهاز الأمن السياسي، وانقطع بعد ذلك عن المشهد السياسي اللبناني والملف الخاص بالتمديد للرئيس لحّود الذي انفرد غزالة في التسويق له.

لكن الحريري لم ينقطع عن التواصل معه فبادر إلى زيارته في مكتبه بعد أقل من شهرين على تسلّمه منصبه الجديد. كانت زيارتنا محل تقدير منه، وإن بدا في حالة انكسار وضمور معنوي عكستها نبرات صوته، والإيحاء بأنّ: «العمل هنا لا يتطلب جهداً كبيراً… هذه فرصة لكي نرتاح قليلاً». توجّه إلى الحريري قائلاً: «لقد قدّمت الكثير للبنان وسوريا يا دولة الرئيس. ظلمناك في بعض الأوقات، لكن أكتافك عريضة، وللظروف أحكام أنت تتفهّمها».

ومن باب التفهّم، اجتنب الحريري أي كلام عن رستم غزالة، بمثل ما تحاشى كنعان الإتيان على ذكره من قريب أو بعيد، خلافاً لغزالة الذي كان يتعمّد في لقاءاته، الكلام باستخفاف عن رئيسه السابق.

بعد تلك الزيارة، التقى الحريري كنعان مرتين. الأولى في مكتب بشّار الأسد في قصر الشعب. والأخرى في منزل خدّام في دمشق لرفع الأضرار التي نجمت عن المرّة الأولى.

فشرت (أي الحريري) أنت وشيراك وكلّ الأميركان. سوريا تاج راسك (…) سيادته يقول تمديد يعني تمديد..

بلغ الاشتباك السياسي حول التمديد للحّود بداية العام 2004، حدوداً غير مسبوقة، كشفت انقسام البلاد على متغيّرات جوهرية في خريطة التحالفات السياسية، وانكسار هيبة التدخّل السوري في الشأن اللبناني. صدر عن مجلس المطارنة الموارنة بيان عنيف يعلن رفض التمديد والتلاعب بالدستور، جاء فيه: «إن سوريا تتعاطى مع لبنان كأنه إقليم سوري، فهي تأمر وتنهي وتعيّن الحكّام وتنظّم الانتخابات، فتأتي بمن تشاء وتبعد من تشاء وتتدخّل في جميع مرافق الدولة». وصرّح الحريري: «إن لبنان متّجه إلى أفق مسدود إذا لم يتغير أسلوب الحكم القائم». تحرّكت في موازاة ذلك ماكينة وليد جنبلاط لحشد القوى السياسية المناهضة للتمديد وفي مقدّمها لقاء قرنة شهوان المسيحي.

في أوائل مارس (آذار) من العام ذاته، في أعقاب صدور عريضة وقّع عليها سبعمائة مثقّف وكاتب وسياسي سوري تطالب بإلغاء حالة الطوارئ وإطلاق المُعتقَلين السياسيين، وصل إشعار للرئيس الحريري بموعد طارئ مع الرئيس بشّار الأسد. راهن على أن يكون الاجتماع فرصة لإعادة النظر في التمديد للحّود في ضوء الرفض اللبناني والمسيحي خصوصاً. تضاعف رهانه على وقع الضغوط الخارجية على سوريا وانطلاق ورشة الإعداد للقرار الدولي 1559 وصدور قانون محاسبة سوريا في الكونغرس الأميركي.

لم تتطابق رغبات الحريري مع حسابات الرئاسة السورية، التي أعدّت له جلسة محاسبة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات اللبنانية – السورية.

وصل إلى القصر في الموعد المحدّد. وجد الرئيس بشّار مع ضباط كبار تعاقبوا على لبنان، اللواء غازي كنعان (عُيّن وزيراً للداخلية)، مسؤول المخابرات في لبنان اللواء رستم غزالة، ومسؤول شعبة المخابرات العسكرية في بيروت العميد محمد خلوف. حدّد الأسد جدول أعمال الاجتماع ببند واحد؛ إهانة رفيق الحريري. قال: «إن الرفاق غازي ورستم ومحمد، كرّسوا عملهم لخدمة لبنان ومساعدتك على تحمّل المسؤولية، أما أنت، فتكرّس كلّ علاقاتك للنيل من سوريا. ما تفعله لمنع التمديد للرئيس لحّود لن يمرّ. الرئيس لحّود يعني أنا وأنا الرئيس لحّود، والعمل الذي تقوم به مع أصدقائك الفرنسيين والأميركان سيرتد عليك. التمديد للحّود سيتم ولن تقف في طريقه لا البيانات ولا ضغوط أصدقائك… ولا جريدة (النهار) التي تخصّصت بتحريض الشعب السوري ضدي… أنت تملك معظم أسهم الجريدة ولا يمكنك التبرّؤ من حملاتها ضدّ سوريا. غير مقبول بعد اليوم أن يكون هناك منبر تموّله أنت، وظيفته الهجوم على سوريا. أقلّ ما يجب أن تفعله التخلّي عن تلك الأسهم».

تكرّس (أي الحريري) كلّ علاقاتك للنيل من سوريا. ما تفعله لمنع التمديد للرئيس لحّود لن يمرّ. الرئيس لحّود يعني أنا وأنا الرئيس لحّود

أعطى بشّار بعد مداخلته أمر الهجوم للضباط. وجّه كنعان الطلقة الأولى متعمّداً عدم الإصابة المباشرة. عرض للدعم الذي قدّمته سوريا للبنان، ولتاريخ العلاقة بين البلدين، منبّهاً إلى مخاطر استخدام لبنان ورئاسة الحكومة منصّة لضرب سوريا ومحاصرتها أميركيّاً وغربيّاً، ومشيداً بدور الحريري في خلال حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد. أما رستم، فسار على خطى بشّار وأطلق قذائفه في اتجاه الحريري: «من أنت لولا سوريا وسيادة الرئيس؟ أنت مجرد رجل أعمال، لن تحلم برئاسة الحكومة إذا لم توافق سوريا. نحن ساعدناك ودعمنا سياساتك وفتحنا لك الأبواب هنا وفي لبنان. لكنك تنكّرت لكل تاريخنا معك. أنت تقف مع شيراك ضدّنا وتحرّضه على أذيّة سوريا. فشرت أنت وشيراك وكلّ الأميركان. سوريا تاج راسك وإذا سيادة الرئيس بيعطي إشارة بيكون لي حديث آخر. سيادته يقول تمديد يعني تمديد وأنت عليك أن تنفّذ. لا خيار لك في هذا الأمر. وكلامي باسم سيادة الرئيس لازم يكون مفهوم». تحمّس خلوف لكن ضمن الحدود التي رسمها كنعان. بدا بشّار في حالة نشوة وهو يراقب الضربات تتتالى على رأس الحريري. انتهت الجلسة كما بدأت وغادر الحريري من دون أن يُعطى حقّ الدفاع عن النفس.

قال بعد عودته إلى بيروت: «لم أشعر في حياتي بأذى أصابني كالذي سمعته في حضور بشّار الأسد. كدت للحظة أن أخرج من دون استئذان، وأن أنهي سيل الإهانات بمشكلة كبيرة. لكن المشكلة مع من؟ مع رئيس سوريا. هل أشتبك معه وأردّ عليه في وجه ضباطه؟! اخترت الصمت والصبر. تجالدت على نفسي، فيما العرق تصبّب من جسمي إلى كعب القدمين، وخرجت مثقلاً بالخوف على سوريا ولبنان».

كتم الحريري سرّه في صدره. لم يبح به حتى لعبد الحليم خدّام، الذي اتصل به مستفسراً عما جرى. أجابه: «اسأل أبو يعرب، كان موجوداً. سأبقى في بيتي، ولن تراني في الشام بعد اليوم». أدرك خدّام أن في الأمر تطوراً خطيراً، قال له: «أرسل إليّ باسم غداً صباحاً».

استقبلني خدّام في منزله من دون أي اعتبار لإمكانية التنصّت عليه. قال بصوت لا يخلو من الحدة: «غير مقبول ما جرى مع أبو بهاء. اتصلت بالرئيس بشّار وأبديت استغرابي لما حصل وقلت له بصراحة، لا يصحّ لرئيس سوريا إهانة رئيس وزراء لبنان، لا في حضور الضباط ولا في غيابهم. رفيق الحريري صديقي وكان صديق والدك، لكنه رئيس حكومة بلد شقيق والتعامل معه باحتقار أمر لا يليق برئيس سوريا».

أضاف خدّام: «للأمانة استمع إليّ الرئيس، ونصحته بمعالجة الموضوع واستقبال الحريري لتصحيح الموقف. لكنه دعاني لمعالجة الموضوع بمعرفتي، وقال أنت مخوّل بالاعتذار وفعل ما تراه مناسباً».

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top