
بقلم خالد صالح
لاتزال الأمور على حالها بعد قرابة سنتين على معايشتنا “الفراغ” في رئاسة الجمهورية، وبالتالي الإختلال في تركيبة الدولة ومؤسساتها، وسط حال من التخبط تتحكم بالأطراف المعنية بإنجاز هذا الأمر، ولايزال البحث جاريًا عن الوسيلة المثلى لبلوغ “الكنز المفقود” من حياتنا السياسية ألا وهو “التوافق” ..
تُدرك الأطراف كافة أنه لاسبيل للخروج من نفق الفراغ من دون “تسوية” ما، تسوية توافقية تضع قطار الاستحقاق على السكة الصحيحة، وأن المكابرة لن تُقدم أو تؤخر، فالتوافق سمة فرضت وجودها على لبنان منذ خمسينيات القرن الماضي، وأصبح وفق “الطريقة اللبنانية” نهجًا خاصًا به حمل اسم “الديموقراطية التوافقية”، فقيّد هذا النهج وسائلنا المتاحة لملء الفراغ، الهاجس الذي قضّ مضاجعنا منذ الـ 2007 وحتى اليوم .
تاريخ الفراغ .. تابع
ليست المرة الأولى التي يشهد فيها لبنان فراغًا في مقام رئاسة الجمهورية، بل هي الخامسة على مدى تاريخنا منذ الاستقلال، اثنتان منها حصلت قبل الطائف ومثلها ما بعده، وإن كانت المرتان قبل الطائف قد حكمتها ظروف داخلية وإقليمية، فإن المرتين الأُخريين لم يكن للخروج منهما سبيلًا إلا من خلال التوافق، ومن الطبيعي أن يسري هذا الأمر على الواقع الحالي، مهما حاولوا رفضه أو مواجهته .
حدث الفراغ الأول من 18 أيلول إلى 22 منه عام 1952 وكان الأقصر في تاريخ “الفراغات اللبنانية” وقد أعقب استقالة الرئيس بشارة الخوري حيث شكلت حكومة عسكرية برئاسة فؤاد شهاب تولت صلاحيات الرئيس أربعة أيام حتى انتخاب كميل شمعون رئيسًا.
وحصل الفراغ الثاني مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل وتعذّر انتخاب خلف له وامتد من 23 أيلول عام 1988 إلى 5 تشرين الثاني عام 1989، أما الفراغ الثالث فقد امتد من 23 تشرين الثاني 2007 إلى 25 أيار 2008 وجاء بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود وتعذّر انتخاب خلف له فتولت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة صلاحيات رئيس الجمهورية حتى انتخاب الرئيس ميشال سليمان.
أما الفراغ الرابع وهو الأطول زمنيًا فقد بدأ عقب انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان بتاريخ 25 أيار 2014 واستمر حتى 31 تشرين الأول 2016 وانتهى بانتخاب الرئيس ميشال عون بعد توافق مسيحي – مسيحي من خلال تفاهم معراب أولًا، ثم توافق لبناني ثانيا أتاح الفرصة في لحظة إقليمية – دولية بالخروج من أزمة الفراغ، ولولا “التوافق” لما بلغنا هذا الأمر .
مخاوف بالجملة
من الطبيعي أن يتسبّب الفراغ بـ “أزمة داخلية” تتمثل بأسلوب فهمنا لقيادة هذا البلد، المتشابك والسهل الممتنع، هذه الأزمة قد تدفع بنا إلى مجهول خطير لأنها تُثير مخاوفَ كثيرة لدى الأفرقاء كافة، سواء الأفرقاء على المستوى السياسي أو على مستوى توزيع السلطات وفق المذاهب، لاسيما أن مقام الرئاسة الأولى بات عُرفًا للطائفة المارونية، هذه المخاوف تكمن في شأن انتقال صلاحيات الرئيس إلى مجلس الوزراء وفق المادة 62 من الدستور .
أيضًا أثار الفراغ مخاوف دقيقة من مسألة تغيير صيغة النظام الحالي “دستور الطائف” القائم على فكرة المناصفة، وفقدان “الموارنة” بعض المقامات وهي مهمة جدًا من تركيبة البلد، مثل قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان ومجلس القضاء الأعلى، لذلك كلّما طال أمد الفراغ كلما بدأ الخوف يتسرّب وتبدأ معها طروحات لاتمت لواقعنا بصلة كالفيدرالية والكونفدرالية وغيرها، أيضًا يصبح العامل اللبناني أقل تأثيرًا في ايجاد السبيل للخروج منه .
سنتان تقريبًا والهواجس تتعاظم إزاء الفراغ المستحكم برئاسة الجمهورية، خصوصًا أن الجميع بات مسلّمًا أن التوافق الدولي على اسم الرئيس العتيد سيشكل حسمًا لهذا الأمر، وهذا فيه للأسف “نقيصة” بحقنا، أن نختلف داخليًا ونرفض التوافق الداخلي، ليأتينا الإسم “معلّبًا” بالبريد المضمون من الخارج، وتحديدًا أي توافق سعودي – إيراني أو بمباركة أميركية – فرنسية، خصوصًا بعد السنة الدموية التي شهدناها في غزة وفي جنوب لبنان .
صندوق بريد
المتابع لأزمة الفراغ بدقة يصل إلى نتيجة تكاد تكون واحدة ومفادها أن الساحة اللبنانية صارت “صندوق بريد” مثالي لتبادل الرسائل خصوصًا بين الرياض وطهران، حيث أن أي تنازل من الطرفين لن يُغيّر كثيرًا في معادلات المنطقة التي صارت مرتبطة بشكل وثيق بالحرب المفتوحة على غزة، فصار الجميع في انتظار ما ستؤول إليه الحرب أو المفاوضات الدائرة لوضع حدٍّ لها، لمعرفة “الثمن” الذي تريده إيران لتسهيل انتخابات الرئاسة اللبنانية، وهل الوضع في غزة والجنوب هو القياس أم أن المفاوضات الأميريكة – الإيرانية بشأن الملف النووي والعقوبات الاقتصادية هو الأساس ؟ .
لا تعتبر هذه الانتخابات حالة استثنائية، فقد كانت انتخابات الرئاسة اللبنانية دائمًا موضع تجاذب دولي، وكان الدور اللبناني فيها يصغر مع الأزمات، ويتسع مع الاسترخاء، لكنه لم يكن في يوم من الأيام قرارًا لبنانيًا صرفًا، بقدر ما كان اسم الرئيس اللبناني يعكس توازنات المنطقة، لهذا علينا انتهاز هذه اللحظة الاقليمية “المشغولة عنا” وليس “المشغولة بنا”، والبحث عن “الكنز المفقود” ببلوغ “التوافق” الداخلي والخروج من أزمة الفراغ المستعصية، ويكون لنا “رئيسًا” صُنِع في لبنان ..