بقلم خالد صالح
إن الجريمة بشكلٍ عام موجودة على صعيد الواقع الاجتماعي عبر التاريخ، ونادرًا مـا يخلو مجتمع من وجود المجرمين والجرائم المختلفة التي تتباين فيها الأهداف والنوايـا، ومـع تطوّر العصور والأزمان، تطوّرت وسائل وأساليب المجرمين حتـى أصبح للجريمة أشكال مختلفة يحقق المجرم من خلالها غاياته، مما أدى إلى تطـور العقوبـات وتدريجاتها حسب شدة وخطورة الجريمة، فمن الجرائم التي تكتسب صفة خاصة ولها مميـزات تفصلها عن غيرها من الجرائم هي الجريمة السياسية وجريمة الاغتيـال السياسـي بشكل أدق..
تُعدّ الجرائم السياسية من أخطر الجرائم التي تودي إلى الاعتداء على أمن الدولة الداخلي والخارجي، فقد عرفت المجتمعات منذ بدء العصور القديمة حتى عصرنا هذا الجريمة السياسية، وقد تم اللجوء إلى معادلات “الشطب الجسدي” تحقيقًا لغايات موضوعة بدقة، خصوصًا إذا كان المستهدف يمثل “عقبة” أمام برامج موضوعة للمستقبل ولابدّ من إزاحته كي يصبح الدرب سهلًا أمام مرتكبي الجريمة .
اليوم وإزاء الصورة القاتمة التي تُغلّف البلاد طولًا وعرضًا، تطفو “سيرة الاغتيالات” على سطح الأحداث بشكل مقلق جدًا، فالانقسام العمودي الحاصل بين مكونات لبنان السياسية والطائفية والمذهبية، وانكشافه أمنيًا أمام “ما هبّ ودب” من “الطوابير”، يعود الخوف ليسيطر من استعادة مشهدية العام 2005 ما بعد الاغتيال المزلزل في 14 شباط، بهدف إثارة المزيد من “القلاقل” و “النعرات الطائفية” لاشعال الساحة الداخلية من جديد .
الاغتيال السياسي في لبنان
منذ نشوء لبنان المستقل سنة 1943 وحتى اليوم، شَهِدَ هذا البلد سلسلة طويلة من الاغتيالات السياسية طاولت رؤساء ووزراء ورجال دولة وفكر ومقامات دينية وقيادات أمنية وأصحاب رأي حر، وكان لهذه السلسلة تأثيرات مباشرة أحيانًا وغير مباشرة في أحيان أخرى على المسار السياسي والاجتماعي وحتى الأمني في لبنان، وتسببت في تبدّل المشهدية القائمة وبروز مشاريع غريبة على الواقع الداخلي، منها ما تمتّ معالجته، ومنها مازاد “في الطين بلة” ..
للاغتيالات السياسية في لبنان تاريخٌ طويل، فعلى مدى عقود كانت البلاد مسرحًا مفتوحًا للتصفيات الجسدية بسبب الصراعات المعقّدة التي تتحكم في طبيعته السياسية، منها مشاريع مرتبطة بأجندات خارجية بحكم ارتباط لبنان اللصيق في منطقة الصراع الرئيسية في الشرق الأوسط، ومنها لتغيير المسار الداخلي نحو وجهة أخرى ورسم معادلة سياسية جديدة، فتكون الجريمة السياسية أو الاغتيالات سبيلًا لتحقيق ما لم يتحقق بالمواجهة السياسية التقليدية .
في لبنان لطالما شكّل “الانقسام السياسي” مدخلًا لهذا النوع من الجرائم، قد لاتكون الأطراف المتشابكة هي الجهة المنفذة، لكن حجم التناقضات يُمهد الطريق للمصطادين في الماء العكر لارتكابات تؤسس للكثير من الفرضيات التي يبنى عليها الكثير من الاتهامات المتبادلة بين هذا الفريق وذاك، فالانقسام السياسي التقليدي هو حالة صحية من شأنها أن تعيد للبلاد عافيتها وفقًا لمعايير التنافس الديموقراطي على قاعدة الحكم للأكثرية والمعارضة للأقلية، لكن “الحالة المرضية” ظهرت على شكل سيارات مفخخة وعبوات ناسفة و “كواتم للصوت” ..
قائمة طويلة جدا
أمام الدوافع التي تودي إلى الجريمة السياسية التي صنّفت كنوع مختلف من أنواع الجرائم الجنائية العادية، يبقى الاغتيال المباشر والشطب الجسدي الهاجس الأكبر الذي يقضّ مضاجع العاملين في الشأن العام، وقد عرف لبنان منذ الـ 1943 جرائم عديدة صُنّفت على أنها جرائم سياسية، وقد غصّت القائمة بأسماء كثيرة أدى اغتيالها إلى مشهديات مختلفة، وشكّل شطبها جسديًا إلى نقطة فاصلة عُرفت بـ “ما قبل وما بعد”، فالأحداث الناجمة عن الاغتيال لم تكن هي نفسها التي سبقته، وهنا مكمن الخطورة .
وأمام القائمة الطويلة من الاغتيالات السياسية التي عرفناها، وأمام ما نعيشه من اصطفافات وزوايا حادة ومواقف متشنجة من بعض القضايا سواء الداخلية أو تلك المرتبط بالمحيط، يطلّ هذا “الشبح” المخيف برأسه على الواقع اللبناني، ومن مصلحة العدو الاسرائيلي أن يلعب على هذا الوتر الدقيق في العلاقة القائمة بين اللبنانيين، بهدف زيادة الشرخ القائم واشعال مواقد الفتنة من خلال هذه الجرائم .
وفي تاريخنا شواهد كثيرة، فالاغتيالات السياسية كانت على الدوام تظهر كنوع من التحضير لمرحلة جديدة، سواء لإزاحة البعض أو لممارسة الضغوط من خلال توترات أمنية وكسب نقاط هنا وهناك، هذه السيناريوهات باتت اليوم محتملة لاسيما وأننا نعيش انهيارًا شبه كامل، ولولا المؤسسات العسكرية التي لاتزال تحافظ على الحدذ الأدنى من التماسك الداخلي، لرأينا العجب العجاب، مع واقع ديموغرافي دقيق وخطير في آن واحد بحجم الكم الكبير والمخيف من اللاجئين السوريين المتواجدين في لبنان .
يبقى الحذر هو المطلوب في مرحلة انعدام الثقة الداخلية، ولبنان “خاصرة رخوة” من السهل النفاذ إليها للمزيد من الضغوط السياسية التي قد تودي إلى هذه الجرائم بهدف تغيير المعادلات الداخلية، تماشيًا مع ما يدور في الاقليم من رسم مشهد جديد، من هنا فإن التصفيات الجسدية واردة في أعراف من يسعون لضرب آخر مسمار في نعش لبنان ..