بقلم جوزاف وهبه

في استعادة غير مستحبّة لتجربة الحركة الوطنية اللبنانية وحركة التحرير الفلسطيني – فتح ممثلة بالقائد التاريخي ياسر عرفات، نكاد نعيش في لبنان تجربة مماثلة لا تقلّ خراباً ودماراً عن التجربة الأولى التي انتهت بحرب أهلية طاحنة (لا أحد خرج، بعد، من تداعياتها التقسيمية والأخلاقية والوجدانية الكارثية)، مع تسجيل تشابه كبير في العنوان الرئيسي للتجربتين المُرّتين:الطريق إلى القدس..وكأنّه قُدّر لهذا الوطن أن يكون ممرّها الإجباري، تارة من جونيه (كما جاء على لسان القائد الفلسطيني أبو أيّاد)، وطوراً من الجنوب كما يردّد يوميّاً خطباء حزب الله!
الإختلاف بين التجربتين يكمن في الرموز:من كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي إلى رجالات التيار الوطني الحر..ومن أبو عمّار وباقي الإخوة الأبوات الذي انتهوا بالإعتراف بالخطأ الكبير مقروناً بسلسلة إعتذارات من الشعب اللبناني، إلى قادة مقاومة حزب الله الذين ردّدوا ذات مرّة في تمّوز 2006 (لو كنتُ أعلم)، ليعيدوا الكرّة في أوكتوبر 2023 مع علمهم الأكيد بكلّ ما تجنيه أيديهم (وصواريخهم الذكية) من كوارث على بيئتهم الحاضنة من جهة، وعلى كلّ اللبنانيين من جهة أخرى!
التيار الوطني الحرّ قاد لبنان (والطائفة المارونية)، بكامل وعيهم المفتون بشيء من الجنون والأنا المعظّمة، إلى مصير جهنّم حيث انهار الإقتصاد وتفتّتت المؤسسات وارتفعت نسبة الهجرة، وعمّ الفراغ المركز المسيحي الأوّل إلى حدّ نبات الحشيش الأخضر – كما يقال – على درج القصر الجمهوري في بعبدا!
لم يترك قادة التيار “مصيبة” إلّا وأبلوا بها شعب لبنان العظيم:من توريث قسريّ للصهر في سابقة غير معهودة، هم الذين ادّعوا الثورة على الإقطاع والإقطاعيين.إلى تسليم شؤون البلد لسيطرة “الدويلة”، هم الذي خاضوا حرب الإلغاء ضدّ القوات اللبنانية توحيداً للسلاح تحت إمرة شرعية الجيش.إلى تعميم الفساد والصفقات والعتمة والهدر وانتهاك القوانين والدستور، هم الذين رفعوا شعارات حقوق المسيحيين والإبراء المستحيل..إلى التحالف مع نظام الإستبداد في سوريا ضدّ الشعبين اللبناني والسوري، هم الذين خاضوا غمار التحرير (سأكسر رأس حافظ الأسد) وجمعوا باسمها ما تيسّر من مصاغ ومجوهرات ومدخرات الناس قبل أن يركبوا هاربين (وهم يقولون مُظفّرين) حصانة السفارة الفرنسية باتّجاه العاصمة باريس!
حزب الله، الشريك الأسود للعهد الأسوأ في تاريخ المسيحيين، لا يزال يصرّ على إقناعنا بجدوى وقدسيّة “حروبه الإلهية العبثية” من مقام السيّدة زينب في دمشق، إلى الفوسفور الذي يغطّي بساتين ووجوه الجنوبيين على عمق عشرة كيلومترات وأكثر:
فهم يخوضون حرب إسناد ومشاغلة دفاعاً عن غزّة التي لم يبقَ منها “فوق الأرض” سوى دمار على مدّ النظر، وسوى ملايين من النساء والأطفال والشيوخ بلا مأوى ولا ماء ولا دواء ولا أمل بما كان يسمّى دولة القطاع أو حلّ الدولتين.وبالطبع، أحوال مَن هم “تحت الأرض” ليست أفضل شأناً.صحيح أنّ يحي السنوار الرئيس الجديد لحركة “حماس” حيّ يرزق، وصحيح أنّه يحاول أن يظهر كرجل دولة من خلال رسائله إلى وليد جنبلاط والأمين العام نصرالله ورئيس الجزائر المنتخب بنسبة 98 في المئة، ولكنّه في الأخير الأخير “مطارَد” وينتظر استشهاده دونما أفق أو مظلّة تقيه خطر القدر المحتوم، وبالأخصّ دونما أرض كان يحكمها سلفه اسماعيل هنيّة، ولا شعب كان يعده بالنصر والتحرير..فالسؤال:ماذا يقول سادة الضاحية لعائلات 500 شهيد سقطوا في الطريق الى القدس، علماً بأنّ مَن يدّعون مساندتهم لتحرير الأقصى والمدينة المقدّسة قد باتوا يكتفون بتحرير معبر فيلادلفيا على حدود مصر، وليس على حدود غلاف غزّة، ليس إلّا؟
ماذا يقول هؤلاء لمن خسروا المال والبنون (زينة الدنيا) متى استقرّ الصراع الأميركي – الإيراني المفتوح على تسوية أو على غالب ومغلوب؟هل يردّدون من جديد مقولة “لو كنت أعلم”، وهم يعلمون بأنّ الجميع لمدركون أنّ جبهة الجنوب المشتعلة ليست إلّا مجرّد بيدق في لعبة الأمم، أو مجرّد حجر (في أحسن الأحوال كِش ملك) على طاولة شطرنج فارس والشيطان الأكبر؟
سيردّدون، كما فعلت وتفعل حماس، أنّ المقاومة لم تمت.وسيرفعون شارات النصر متوجّهين إلى الداخل علّهم يخرجون بتعويض في النظام الجديد..والمفارقة أنّ هذا التعويض لا بدّ أن يُدفع من جيب شريك مار مخايل..وهو ما بات يدركه الوريث جبران باسيل، وهو ما يفسّر مواقفه المستجدة العالية النبرة.ولكن، كلا الشريكين لا بدّ خاسران (ومعهما يخسر لبنان واللبنانيون):فلا بيئة الحزب المنتصر ستلقى ما يوازي الأثمان المدفوعة في البشر والحجر..ولا المسيحيون سيجدون ما وعدهم به التيّار المظفّر من حقوق مسلوبة!

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top