الجنرال طنسة فقد أسلحته واللبنانيون يتسلحون بالامل.

بقلم د. طلال خوجه

بعد ان امتنعت عن الكتابة بضعة اسابيع خوفا من التكرار والتحول لواعظ وربما نادب، اثارني توقيف رياض سلامة بطريقة اشعلت الاقلام والألسن ومواقع التواصل الاجتماعي التي فاضت بالتخيلات والتحليلات.

فمن شامت الى حذر الى متوجس من استهداف طائفي، الى متحسس لذقنه، الى ناعت بالمسرحية. اذ لم يعد من ثقة عند اللبنانيين بالاستبلشمنت بمرافقه كافة بعد ان تهاوت هذه المرافق تحت ضربات فائض القوة الحزب اللاهية بسكوت واحيانا تواطؤ معظم الطبقة السياسية الفاسدة، او الفاقدة التأثير و المتسربلة بالهواجس الطائفية والحسابات الانتخابية، او السارحة نحو اوهام الفدرلة والتقسيم على أساس ما عاد حدا يشبه حدا، و يمكن ما عاد حدا يشبه حاله.

ومع ان سيرة المدعي العام التمييزي الجديد تفيض بالحسنات على ما يقال، الا أن انهيار الثقة بالسلطات عموما، بما فيها أم السلطات، زاد منسوب الحذر و الترقب(ولنا في جريمة المرفأ المروعة أبرز مثال حيث لم يتجرأ القضاء على توقيف المطلوبين زعيتر و خليل و فنيانوس، وما حدا بيعرف شو صار بقديسي حزب الله الذين ادانتهم المحكمة الخاصة بتفجير الحريري).

والمعروف أن السلطات ومافياتها محمية من السيستم اولا ومن فائض القوة ثانيا، يقابلها ضعف و تكيف معظم المعارضات والنقابات والهيئات المدنية. لذا يقلق اللبنانيون من تحويل سلامة في احسن الاحوال الى كبش محرقة، بات كثر يحتاجون هذا الكبش النحيل، وهم لطالما احتاجوه عندما كان فرعونا مدهنا. هكذا عاد سلامة القابع وحيدا في سجنه يشغلنا من جديد بعدما شغلنا عقودا وهو متربع على عرش حاكمية مصرف لبنان، خصوصا بعد تعقد و تغير و من ثم تكيف و تضخم دوره في اعقاب استشهاد المارد الذي اتى به.
و مع أن استشهاد رفيق الحريري أشعل انتفاضة ١٤ آذار التاريخية، والتي ادت في مناخ اقليمي ودولي مؤات الى معجزة خروج القوات السورية من لبنان، الا أن ضعف القوى الديمقراطية في الانتفاضة والمصالح السياسية والطائفية للقوى الاذارية السيادية، معطوفة على رغبة تصالحية مع “الحالة الشيعية” بمراهنة فاشلة على هامش لبناني عند الحزب المدجج ايرانيا، و عدم حسم المواجهة مع الرئيس لحود لاعتبارات طائفية ايضا، ادت الى ضعف الاستثمار الديمقراطي والمؤسساتي في الانتفاضة التاريخية، مما سهل استبدال الهيمنة السورية بالهيمنة الايرانية.
لن نستفيض في سردية السيطرة التدريجية لحزب الله على مقدرات البلد واختراقه للدولة العميقة التي عمل على تفكيكها وبعثرتها، واضعا البلد العربي في خدمة مصالح راعيه الايراني. فما زلنا نتذكر العملية التي تلت فشل مفاوضات النووي في فيينا، رغم وعود السيد حسن نصرالله في جولات الحوار العقيمة بتمرير صيف واعد . والعملية استجرت عدوان تموز ٢٠٠٦ المدمر على لبنان وما تلاه من احتلال الحزب وحلفائه للوسط التجاري وحصار السراي ومسلسل الاغتيالات و الهجوم الدموي على بيروت والجبل في ٧ ايار ٢٠٠٨ و اتفاق الدوحة المشؤوم و one way ticket. اكتمل العبث بمواجهة الحزب الالهي للربيع السوري ودعم النظام الفئوي رغم سياسة النأي بالنفس و اعلان بعبدا ، ومن ثم ايصال مهووس السلطة الرئيس عون لقصر بعبدا، وصولا للانهيار السياسي والجحيم الاقتصادي و انفجار انتفاضة ١٧ تشرين في ٢٠١٩ التي تعامل معها الثنائي المدجج بالقمع والبطش عندما تعذر احتوائها.

لقد بدت سنوات الانهيار المالي والنقدي والمصرفي، والتي بدأت مؤشراتها تظهر منذ ٢٠١١، وكأنها مسرحية سوداء ارتضى رياض سلامة أن يلعب دور البطل فيها، معتقدا انه يتحكم بفصولها وادارتها. قيل في الرجل اكثر مما قاله مالك في الخمرة، فوصف بالفرعون والشيطان، والرجل الفاقد للملامح والرجل الشبح و صاحب طاقية الاخفاء . لقد اضطر البطل المزعوم لتغطية تداعيات التمنع عن دفع اليورو بوند وكل ما قامت به الحكومة الممانعة التي شكل د.دياب طربوشا لها، بدء بعدم اقرار الكابيتال كونترول بعد ان سحب الوزير وزني مشروعه بطلب من مرجعيته السياسية الى قرارات صرف المليارات المسلوبة من اموال المودعين على الدعم الباذخ والمتسرب لإنعاش اقتصاد النظام السوري، و المتلاعب به من تجار الفساد و المافيات المحمية، فضلا عن الميسورين الذين زاد منسوب استهلاكهم المدعوم. ولم يصل في الواقع للمحتاجين والفقراء والباحثين عن الرزق في صناديق القمامة سوى الفتات. وهذا ما تكرر بموضوع صيرفة، رغم امتصاصها بعضا من ورم الليرة الخبيث.

يسود اطراف السلطة صمت مريب. فرئيس الحكومة الذي واجه الضغط الباسيلي الكيدي سابقا لتغيير سلامة بمقولة عدم تغيير الظباط في المعركة، قال انه يحترم قرار القضاء! والواقع فإن سلامة كان قد تحول للجنرال طنسة الذي صار عليه ان يواجه العدو من البحر والجو والارض بعد انفجار الازمة واعلان التعثر و الدعم الباذخ. اما التيار العوني/ الباسيلي الذي يلهث وراء تسجيل انتصارات وهمية، فلا صدقية له ولرئيسه في الهجوم على سلامة، خصوصا ان عمه مدد له في بداية عهده، و تواتر الكثير انداك عن صفقة الحاق بنك العهد بغنائم الهندسة المالية، فضلا عن سلف الخزينة الدسمة للطاقة والسدود والكهرباء التي تعادل قصصها السوداء حجم الكارثة الوطنية، هدرا و فسادا وتوظيفا وفشلا وفجورا، معطوفة على التخريب في الاتصالات و التأميم الجزئي في اوجيرو الذي قام به نقولا صحناوي لحشو الشركة بالمحاسيب.

لن نعود للوراء لتقييم المرحلة السابقة التي سبقت انتفاضة الغضب و الاغلاق الاسود للمصارف والتي طبعها محاولة ابطاء أو تأخير انفجار الازمة بواسطة الهندسات المالية، عندما عجزت قوى السلطة عن ترجمة مؤتمر سادر الذي كان يمكن بمقرراته المالية واقتراحاته الاصلاحية ان يشكل بداية الخروج الآمن من الأزمة الاقتصادية والمالية و التي هي في الواقع أزمة سياسية وسيادية.
كما لن ندخل في تقييم تفصيلي للمرحلة التي تلت انفجار الازمة وانتفاضة الغضب والاغلاق الاسود و التعثر عن الدفع. و قد ادارها الجنرال طنسة ومعاونوه بتعاميم و قرارات استنسابية عكست عمليا محصلة ميزان قوى مختل لصالح قوى السلطة رغم تشظيها، خصوصا بعد تعتر وانكفاء قوى الانتفاضة.
و نشير لبعض الملاحظات الاساسية.
١-التعاميم كانت غير دستورية وغير قانونية وقاسية اكثر على الشرائح الغير المحمية من الطبقة الوسطى التي تعتز وتحتمي بمدخراتها، علما انه كان يمكن للجنرال طنسة ان يستبسل و يدفع “بكابيتال كونترول بطولي” عوض الخضوع لتمويل الدعم و السكوت أو التواطؤ عن تحويل اموال النافذين ودفع القروض على ١٥٠٠ وتشجيع تجارة الشيكات وترك فتات التعاميم للمستضعفين.
٢-ساهم انكفاء معظم المعارضات، بما فيها المعارضة التغييرية عن المواجهة المباشرة للقضايا الحياتية و قضية الودائع بتفرد سلامة والسلطات واستضعاف المودعين الذين ما تزال تذاب ودائعهم ب١٥٠٠٠ للدولار و بتداعيات بدعة الودائع الغير المؤهلة في تطبيق التعاميم وفي خطط الانعاش المالي البائسة. أما الضرائب والرسوم وأسعار الخدمات والسلع فتحسب بسعر دولار السوق، ولا يستطيع الحاكم بالنيابة التنصل من التبعات مهما نال من إشادات. والمؤسف أن الكثير من التغييرين والمعارضين والنقابيين كان لهم مواقف تأييد للدعم والتعثر ساهمت بتكيف المواطنين و بالإيغال والتوحش عند أطراف السلطة.
الى اين تقودنا هذه الملاحظات؟
ربما وجب التنبه من ان نقاد الى مسلسل من حلقات الالهاء بموضوع محاكمة سلامة الذي يبدو وكأنه جنرال فقد اسلحته. وربما تطوى صفحة لتمرير مشاريع لقطاع مصرفي مختلف بعد النجاح في افقاد الثقة بدرة التاج، والوصول لمصير بائس للودائع وللمصارف، ولدور اقتصادي واجتماعي للبلد متخلف، بعد ان كان لبنان سباقا في المنطقة بميادين اقتصادية و اجتماعية وحقوقية وثقافية متنوعة.
وللاسف فقد ساهم اداء معظم ادارات المصارف بانهيار ثقة المودعين، إذ كان ممكنا البحث معهم عن حل مشترك واقعي، يقوم على خطوات ملموسة ومريحة في اعادة بناء الثقة وليس على اللهاث وراء فلس الارملة كيف ما كان. فليس ممكنا ومطلوبا اعادة الودائع بالكاش وتخبئتها في البيوت في عصر الرقمنة، بل المطلوب اعادة بناء الاقتصاد والذي يحتاج لاصلاحات و لقطاع مصرفي موثوق .
وهذا يطرح مسؤوليات مضاعفة على المعارضات المختلفة، المندفعة في الشكل نحو امهات المعارك السيادية والتي تبدو متعثرة، ان لم نقل فاشلة.
فلا سيادة لبلد حين يهاجر شبابه ويبقى مسنوه.
إن المواجهات السياسية والمدنية والنقابية، الموضعية والمتدرجة تساهم في صمود البلد المخطوف والمهدد بأخطار مصيرية متصاعدة. لذا فإن العمل على وقف نهب و اذلال المواطنين بالدولار المصرفي وبغيره من وسائل القهر، وما أكثرها، يشكل حلقة في سلسلة المواجهات الضرورية.
ويبقى السؤال: كيف ستواكب محاكمة سلامة وملابساتها وتداعياتها؟

يدهش هذا البلد الجميل الذي تسيده رؤساء قبائل و قدموه مرارا فريسة لالهة الشر، كم هو عصي على الهضم، لذا يتمسك ابناؤه بالامل للخروج من المحن و الأهوال الطاحنة التي تضربه وتضرب فلسطين و كامل المشرق والمنطقة في مرحلة التحولات الجيوسياسية الكبرى، رغم همجية ووحشية الهة الشر الحديث.

المصدر : جريدة النهار

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top