بقلم جوزاف وهبه
هل يعي حزب الله سريعاً، وقبل المزيد من الإستشهاد والإرتقاء السعيد (كما يأتي في ثنايا بيانات النعي) والمزيد من أشكال الموت والبحث عن الأحبّة المفقودين تحت ركام هذه البناية أو تلك الدار والبلدة..هل يعي تلك الحقيقة المُرّة بأنّ اللعبة قد انتهت، أو يُفترض بها أن تنتهي؟
هل تعي قيادة المقاومة الإسلامية (أو مَن تبقّى من رموزها وأبطالها) بعد سلسلة ضربات البينجر واللاسلكي وضاحية الرضوان والقصف الجوّي التدميري التهجيري (500 شهيد في يوم واحد) بعيداً عن إفتتاحيات “بوب”ومناظرات فيصل عبد الساتر، أنّ الذكاء الإصطناعي والتكنولوجيا الحديثة قد باتت أكثر فعاليّة وتأثيراً وتدميراً، ولها الغلبة في “الميدان” الذي طالما احتكم إلى شروطه الأمين العام للحزب في خطبه المتكرّرة من مناسبة تأبين شهيد إلى مناسبة أربعين شهيد آخر؟
هل يُجري الفكر المقاوم بعض النقد في مرتكزاته العقائديّة، علّه يصل إلى النتيجة التي تقول بأنّ طائرات (إف 35) لا يمكن مواجهتها بصواريخ الكاتيوشا، أو بالإيمان المطلق مهما كان صادقاً، أو الخرافات الخارجة من باطن التاريخ السحيق..والتي لا يمكن لها أن تلغي ثابتة أنّ “طيور أبابيل” على قدسيّتها تبقى عاجزة أمام هول وغرابة ما أنتجته أحداث ووقائع (وصدمات) 18 و19 و20 أيلول الجاري؟
ربّما حان الوقت للكلام البسيط الصريح، النابع من الخوف والعقل المجرّد، مع السيّد حسن نصرالله.ربّما حان الوقت للطلب إليه، بلا مواربة ولا محاباة ولا شماتة، بأن ينظر في مرآة خسائر وأرباح بيئته الحاضنة أوّلاً، وفي أحوال الوطن اللبناني ثانياً وأخيراً.وأيّ حسابات أخرى، خارج هذه البيئة وهذا الوطن، لا قيمة لها.وهي – بلغة الحرب المستعرة – صفر قيمة:فالإتّكاء على مآسي البُعد الديني لا يوصل إلى مكان.والإعتماد على قدرات الحرس الثوري الإيراني لا ينتشل طفلاً واحداً من تحت ركام الضاحية.وأسرار الخامنئي الإلهية (قدّس الله سرّه) لن تردّ غزّة إلى ما قبل السابع من أوكتوبر، ولا تُعيد مهجّراً جنوبياً إلى بيته في القرى الحدودية.ورسائل التشجيع والتبريك من يحي السنوار، على حرارتها، لا تصنع نصراً مبيناً.وبالأخصّ، ليست “وحدة الساحات” هي التي يمكن لها أن تملأ الفراغ الميداني القاتل في هرمية جيش الحزب المقاتل، بلا عيون ولا شبكة إتصالات، ولا تراتبيّة قيادات.فكلّ هؤلاء الحلفاء (في الداخل والخارج) صواريخ دخانية (ولو كانت فرط صوتية)، كما هي موجة التبرّع بالدم مجرّد شحنة عاطفية، منها المتحمّس المنفعل، ومنها صيّاد الفرص السياسية والإنتخابية، ليس إلّا!
كلّ هذه السرديّات السياسية والدينية والبطولية لم تعد كافية لتوفير مظلّة الحماية المطلوبة للطائفة الشيعية في هذه المرحلة العصيبة، خاصّة وأنّ العدو الغاشم (لا أعرف من أين جاءت هذه التسمية الغاشمة!) قد بات فالتاً من عقاله، وقد قدّم لنا (فوق بحر من الدماء..) نموذجاً فظّاً على مدى شراسته، وعلى مدى تفوّقه العلمي والتقني والإستخباراتي والعسكري، بما ينبئ بأنّنا لا بدّ خاسرون..إذا ما استكملنا عنادنا وعماءنا عن موازين القوى المختلّة، وعن هشاشة ما بنيناه من منظومات قتالية بدت، بين ليلة وضحاها، أوهى من خيوط العنكبوت!
ما تحتاجه الطائفة الشيعية، اليوم، كلام من العقل إلى العقل، ولو بدا حادّاً كالسكين، ولكنّه يبقى أقلّ كلفة من مشاهد الجنازات المتسلسلة، ومن العيون المغمّضة والأيدي المقطوعة وبيوت العمر المهدّمة.ما يحتاجه الحزب والطائفة هو دعوة صريحة إلى الكفّ عن العبث في شعارات “الطريق إلى القدس، وإسناد غزّة، وزوال الكيان الصهيوني من الوجود..”.فالطريق إلى القدس ليست سالكةبهذه السهولة، كما نشتهي.ومَن بات يحتاج إلى الإسناد هوقلب الضاحية وبلدات الجنوب وسهول البقاع..ولنترك للزمن ولأحوال العرب مهمّة “إزالة الكيان” وحلّ الدولتين.فنحن أضعف من أن نتنطّح وحدنا إلى كلّ هذه المهام، دفعة واحدة!
لقد أخطأ الحزب حين أزاح الدولة اللبنانية من حقّ المشاركة في قرار السلم والحرب.وأخطأ السيّد نصرالله حين أعلن بشيء من التفاخر إكتشافه “العميل الإسرائيلي” في هواتف الخليوي، لاجئاً إلى تقنيّة البينجر واللاسلكي.وأخطأت قيادة “الرضوان” حين توهّمت الإحتماء في نفق بناية تعجّ بالعائلات والنساء والأطفال..وأخطأت الطائفة الشيعية حين اختارتالإستنساخ من تجربة حكم الطائفة المارونية ظاهرة”إختزال” دور الطوائف الأخرى، ما جعل الموارنة (ومعهم جميع اللبنانيين) في واقع يُرثى له، وهو ما جعل ويجعلالشيعة (ومعهم جميع اللبنانيين) في مأزق لا يُحسدونعليه!
جميع هذه الأخطاء بلغت مداها الأسود.وجميع هذه الحاجات طافت على السطح.بمعنى آخر، يمكن القول أنّ اللعبة انتهت.وكلّ يوم إضافي هو خسائر إضافية صافية.هو أمّ تتّشح بالسواد والحزن، لئن ردّدت “فدى السيّد”.هو والد يحبس دمعته.هو أرض تحترق بالفوسفور، وبيوت تتحطّم جدرانها بلا أمل ولا رجاء.هو وطن يخسر شبابه، هجرةً وموتاً وإعاقةً.هو بلد يتفتّت بلا إقتصاد ولا مستقبل ولا دولة.
اللعبة انتهت.علّنا نستفيق غداً على صباح يستهلّه الأمين العام، الذي يفترض به أن يكون أميناً على أهله وأهل البلد، بالقول المفيد:حاولنا، ولم ننجح.عذراً غزّة.عذراً فلسطين.عذراً أيّها الشهداء الأبرار…الإمرة، بعد اليوم، للدولة اللبنانية..فلتتفضّل!!