
بقلم خالد صالح
لستُ أدري ماذا كان يمرّ بخاطر “الأخوين رحباني” عندما كتبوا “إنتْ القوي، إنتْ الغني .. وإنتْ الدّني يا وطني”، لست أدري أيّ مشاعرَ اجتاحت هذا “الثنائي” العبقريّ كي يسبقوا عصرَهم ويجعلوا من الوطن “رسالة” لها كيانها الخاص وكينونتها الفريدة قلبًا وقالبًا، وكأن حجابَ الغيبِ قد أزيح عن بصيرتهما أن لبنان “القوي، الغني” هو الدنيا وما فيها .
سواء أكانت العبقرية أو الصدفة أو الحس الوطني الكبير الذي تمتّع به هذا الثنائي فجعلوا من صوت “فيروز” الرخيم “هوية لبنانية” تحوّلت إلى سفارة للنجوم، فإن ما حملته كلمات هذه الأغنية من مضمون يُعبّر عن واقعنا المأساوي “وطني يا دهب الزمان الضايع .. وطني من برق القصايد طالع”، ونحن في خضمّ حرب همجية يشنها العدو الاسرائيلي علينا بشرًا وحجرًا .. تاريخًا ومستقبلًا ..
فاتورة مستمرة
ربّما لأن من هم مثلي يُطلق عليهم “مخضرمون”، نحن الذين تفتّحت عيوننا على نهوض “القومية العربية” وآمنا بشعارات العروبة و “الوطن العربي الكبير” من المحيط إلى الخليج، نحن الذين أدركوا الوعي و “قضية فلسطين” أمامهم، فصارت قضيتهم المركزية التي تتقدّم على كل اهتماماتهم، نحن الذين عشنا “النكسة” و “حريق الأقصى” و “أيلول الأسود” وعشنا “حرب العبور المجيد”، وهتفنا يوم كنا صغارًا “سنرجع يومًا” وصرخنا مع سعيد عقل “البيت لنا والقدس لنا”، نحن الذين آمنا أن “المحتل” مهما طال بقاؤه فهو زائل” .. ولكن !!
لقد أرهقتنا “القضية”، ليس تشاؤمًا أو تخلّيًا عنها، فهي متجذرة فينا حتى النخاع الشوكي لعشقنا لفلسطين، لكن “الفاتورة” التي ندفعها من أعمارنا تجاوزت كل حدود، ونحن نرى فلسطين ترابها مخضّب بدماء الشهداء الأبرار، وأن لبنان يسير على “درب الجلجلة” نفسه، حتى أصبحا وجهين لعملة واحدة، بينما وطننا العربي الكبير – الحلم – صار مقطّعًا وممزّقًا ومتفرّقًا، كلٌّ يُغنّي على ليلاه، ودماؤنا تتناثر كـ “زخات العطر”، وأن ما يجري على أرضنا بعيد كل البعد عن المنطق والروايات والقصائد والحكايا، ما يجري يبتعد بنا عن منطق النصر والحلم و .. الأمل !! ..
نعم لقد خارت قوانا حتى صرنا أمام معادلتين، إما الاستسلام وإما أن نكون أشجارًا نموت واقفين، ولايزال هناك من يرتاد الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي، كي ينعي “القضية” وكي “يؤبّن الوطن” على ما يمرّ به، نعم الفاتورة كبيرة لكنها أهون علينا من فاتورة التخاذل والتطبيع والانصياع وتحقيق مآرب العدو، وقدرُنا أن نظلّ متمسكين بقناعاتنا بأن لبنان “سيعود” وفلسطين “ستعود”، والحلم – الجرح – الذي أضاعوه سيتحقق ذات يوم، هكذا “أخبرني العندليب” ..
وحدتنا تحمينا
نحن من جيل أرهقته “الهزائم العربية”، شبعنا خضوعًا، شبعنا تقهقرًا وخنوعًا، شبعنا دماءً وقتلًا وتشريدًا، قوافل اللاجئين والنازحين منّا لاحصر لها، في الداخل والخارج، وحتى اللحظة لم نتخلّ عن قناعاتنا رغم الأثمان الباهظة التي دفعناها ولانزال ندفعها، ولا خيار أمامنا إلا التمسّك بوحدتنا وتكاتفنا في وجه عدو متغطرس وطامع في الأرض وخيراتها والإمكانات من هنا وهناك، ولامناص لنا إلا هذا النهج كي نحمي وطننا من براثن أطماع الآخرين ..
من يعتقد أن “طوفان الأقصى” وما استتبعه من مواقف يسجلها التاريخ خصوصًا في لبنان هو هزيمة، عليه مراجعة نفسه، لأن لبنان الصغير بحجمه، الكبير بعطاءاته وتضحياته، يقف اليوم على مرتبة التمسّك بما تخلّى الجميع عنه، ويرفض أن يتجرّع واقعًا يحاولون فرضه علينا، فتاريخ 7 تشرين الأول 2023 سيظل محفورًا في سجلات التاريخ بأحرفٍ من ذهب أنه المرحلة التي أعادت “ضخّ الأوكسجين” في شرايين القضية والأمة على السواء .
قد يختلف البعض معي في هذا التوصيف، لكن اليقين بـ “فلسطين” هو من يدفعنا لهذا الاعتقاد، واليقين بـ “لبنان” هو من يؤكد هذا التوصيف، فالعدو الاسرائيلي الغاصب يمتاز بالوحشية ويمتلك أدوات القتل لكنه عاجز عن اقتلاع الايمان من نفوسنا بأحقيتنا الأبدية في أرضنا، نحن المرابطون في المقدس وأكناف بيت المقدس، وما ضاع حقٌّ وراءه مطالب ..
“عم بكتب يا وطني .. الوطن ما بيموت”، لامكان لليأس في قلوبنا ولامكان للتخاذل والخنوع، وما مظاهر التضامن الداخلي التي تجلّت بأبهى صورها إلا الدليل الساطع أن هذا الوطن قادر بوحدته على مقارعة “المخرز” الأسرائيلي، ولتكن مشهدية هذا التكاتف هي اللبنة الصلبة التي نؤسس عليها القادم من الأيام، لأن وحدتنا هي قوتنا التي تقضّ مضاجع العدو الذي يبحث عن أي وسيلة لضربنا من الداخل، ولنكن مؤمنين أن هذه العاصفة ستمر، ولنفوّت على العدو الفرصة ونقول له بالفم الملآن :
“من يوم اللي تكون يا وطني الموج كنا سوى
ليوم اللي بيعتق يا وطني الغيم رح نبقى سوى
تاجك من القمح مملكتك السلام
شعبك بيحبك لتبرد الشمس
توقف الإيام، توقف الإيام” ..
ولكم يا شعب وطني .. من قلبي ألف سلام ..