بقلم خالد صالح

في البقاع تعودُ الأبجدية كما رضعتها نهرًا وجسرًا وأعودُ طفلًا يكتبُ “الوجع” بحبرِ التفّاح، في البقاع لا يحلو للشّمسِ مناغاة ظلّها إلّا في كفِّ أمٍّ تودّع ابنها، أو أبٍ تحجّرت الدمعة في مقلتيه، في البقاع تقولُ حكاياتُ الجدّات “إن القمحَ كان صلاةَ الفقراء والطينُ المعجونِ بصبرِهم كان صلاةَ الأرضِ فوقَ الجباه ورغيفَ الخبزِ يُعلّمُهم أن التنّورَ يَرسُمُ حدود البلاد” ..
في البقاع كلّ السّماواتِ سواسية وكلّ الجغرافيا سواسية، وكلّ التاريخ يُكرّس نفسه لكتابة “الظلم” اللاحق بنا، من الأقربين قبل الأبعدين .. في البقاع لا فضلَ لغيمةٍ على سحابٍ إلّا بالمطرِ ولا لنجمةٍ على قمرٍ إلا بالصّفاء ولا لعينٍ على قلبٍ إلا بالبُكاء .. يقولُ النهرُ لضفّتيه : إنما بُعثتُ لأرمّم تجاعيدَ اللقاء ..
تغييب مخيف
من يتابعُ تفاصيلَ الحرب يكتشفُ أن “البقاع” الذي يدفعُ ضريبة باهظة في مقاومته للعدو الغاشم، تحوّل عبر محطات التلفزة في لبنان إلى “تقرير” إحصائي “ناشف” يذاع على الهواء، مباشرة تارة، أو خلال النشرات الإخبارية مسجّلًا تارة أخرى، عدد الغارات، المناطق المستهدفة، المنشآت المدمرة، عدد الإصابات بين شهيد وجريح، وكأن هذه المنطقة التي تُشكل في امتدادها “جسدًا” تلتصق به بقية المناطق، لا واقع اجتماعيًا يقض مضاجعها، لا آلام لأهلها، لا صوتَ لها ينبغي أن يُسمع، وكأن الإنسان في البقاع “مجرّد رقم” ..
البرامج الحوارية التي تبثها محطات التلفزة اللبنانية، تستضيف وتحاور شخصيات سياسية وإعلامية من الجنوب، من بيروت وضاحيتها، من الشمال ومن جبل لبنان، بينما تتجاهل وربّما عن غير قصد الوجوه البقاعية، السياسية والاعلامية والاجتماعية، هذا التغييب المخيف عن التطرق إلى شؤون المنطقة التي تقاسي ما تقاسيه في زمن السلم، فما بالكم في زمن الحرب و “النزوح” ..
سألتُ أحد الناشطين في “هيئة اغاثة” في بلدة معروفة هل من مساعدات تصلكم من الجهات الرسمية، لاسيما أن عدد الوافدين لبلدتكم تجاوز الـ 1500 “ضيفًا”، قلة منهم في مراكز الإيواء والأكثرية المطلقة هم ضيوف الأقارب والأصدقاء، فقال لي: حتى اللحظة على الاطلاق، والمبادرات هي فردية ومن أهل البلدة، وصوتنا “مكتوم” ومناشداتنا لم تصل لأصحاب الشأن في الجهات الرسمية، وسنكمل مسؤوليتنا تجاه أهلنا حتى ولو “باللحم الحي” .
لا تقتلونا مرتين
في البقاع .. أحمرٌ هو ظلّكَ بلون الدم، حين تساعدُ امرأةً بحملِ “بيتها” المرمي على ظهرها، فتقولُ لكَ : شكرًا لوجودك، شكرًا لقلبك النقي غير الملوّث بترّهات السياسة العاقر والطائفية البغيضة والمذهبية السافلة، في البقاع يأتيك صوت “حجّة” خائفة من هدير الطائرات ودوي الغارات وعويل الأطفال وهي تغني باخضرار صوتها: “بالبقاع كل شي حلو حتى ظلام الليل” .. وكلما حكّ الليلُ فروةَ الذكريات سلامًا على لون المواويل في تلك التجاعيد المرسومة حول عينيها .. هكذا يقول ناي يحنّ إلى جريان النهر ..
في البقاع لكل حمامةٍ غصنا زيتونٍ ولكلّ عصفور ظلّة تين ودالية عنب، فكيف تُغيّبون “السهل” عن اهتماماتكم وهو الذي ما بخل بالعطاء يومًا ؟، كيف تتجاهلون “البقاع” الطيب وآلامه وأوجاعه وأهله وناسه وهو الذي على الدوام كان مقلعًا للشهامة والكرامة والكرم وبلسمًا لكل ألم وترياقًا لكل وجع؟، ولماذا تتناسون واقعه الصعب القائم منذ الـ 2011 ؟، حيث هيمن “اللجوء” عليه، ليأت “النزوح” اليوم ليزيد من مسؤولياته تجاه الأهل والأحبة الذين فرضت عليهم الحرب مشيئتها واضطرتهم له، ليصرخ البقاع قائلًا “لا تقتلونا مرتين” ..
نحن أدرى بشعابنا
عندما أتابع البرامج الحوارية، انتظر بشغف أن يتطرّق أحد المتكلمين عن “البقاع”، عن هذا “الاحتضان” العظيم الذي تجسّده هذه المنطقة بأهلها وناسها، وكأن الانسان يحتضن نفسه فيلف ذراعيه حول كتفيه، انتظر أن أسمع شيئًا عن “الوطنية الحقة” التي تُجسّدها هذه المنطقة، بلسانٍ بقاعي أو بقلم بقاعي، أو لناشط بقاعي كرّس جهده ووقته وطاقاته في سبيل تضميد جراحات الأهل وتخفيف معاناتهم، على قاعدة “أهل مكة أدرى بشعابها” .. فتصفعني “خيبة الأمل” ..
هنا في “البقاع” تكتشف أنك في “الوطن”، هنا نبض الرحيق في عيون الأمهات، وتفاصيل خطوات الأباء الذين كابروا على دمعاتهم، كي لا تعتنقهم خطوات الرحيل، هنا في البقاع، “المنسي” تمامًا وكأنه قطعة من وطن آخر، تشعر أن المساحات – رغم اتساعها – تضيق جرّاء الحب المنثور لمواجهة كل “طقوس الموت” الذي يرسم بالتراب ملامح البيوت، ويحفر بالحنين معالم الطرقات، وفيه أيضًا نظرات امرأة تنجح في اقناع الدمع أن حدود عينيها بريئة من هذه البلاد، كلما حاولت أن تمسح غبار النسيان عن بيتها الغالي .. والمدمّر ..
في البقاع كل “الأولياء” أرادوا المرور من هنا، لكنهم عاهدوا النهر أن يسمعوا لشكواه يوم الحساب، وتركوا لكل شجرة تفاح من رائحتهم دواوين من شموخ، في البقاع المسافة بين القذيفة والقذيفة وبين الغارة والغارة وردة وسرب حمام و”عتابا”، هنا لا أحد ينجو سوى العارفين .. تاريخ السهل وسيرة النهر ورائحة الغناء ..

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top