كتب البروفسور مارون خاطر(باحث في الشؤون المالية والإقتصادية):
في الشَّكل، قَد يَبدو تَعديل التَّعميم 147 وكأنَّه يَهدُفُ فَقَط إلى إعادة أموال المودعين العالِقة في الشيكات المَصرفيَّة المُحرَّرَة وغَير المُحَصَّلة إلى حِسابات المَصارف بِهَدَف السَّماح لأصحابها الاستفادة من تَعاميم مَصرِف لبنان ولا سيَّما التَّعميمَين 158 و166. إلا أنَّ هذا التعديل قَد يَحمِلُ في طيَّاته أهدافاً أبعد وهي تَتَعلق بِمُحاولة تَقليص عَدَد وحَجم جزء من الشيكات المحرَّرة وغير المُحَصَّلة. لا بُدَّ من الإشارة الى أنَّ أزمات لبنان المُتلاحقة جَعَلَت من هذه الشيكات إحدى أدوات التَحَوُّط لدى بَعض المودِعين وأبرَز الوسائل التي يَستخدمُها المُضاربون لِتَحقيق عَوائد غيرَ مَسبوقة، لا بَل غَير مَشروعة. يَشهد سوق الشيكات حالاً من الرُّكود الذي يَبدو أقرَب إلى التَّرَقُب بَعدَ أن هَوَت أسعارُ تَداولِها بِسَبَب ما يَشهَده لبنان من مُتغّيرات سياسيَّة واقتصاديَّة وأمنيَّة لا تَتَوَقَّف ولا تَنتَهي.
نظرياً، يُلزِم تَعديل التَّعميم 147 بَعض المَصارف الفاقِدَة للقِيَم الانسانيَّة والمهنيَّة التي أقفَلَت حسابات عُملائها عُنوةً، عَبر إصدارها شيكات مَصرفيَّة، على إعادة أرصدة هذه الحسابات بعد إعادة فَتحِها. بالتوازي، تَلتَزِم المَصارِف بموجب هذا التَّعديل بإعادة الشيكات المَصرفيَّة غَير المُحصَّلة أو المُظَهَّرَة إلى حسابات حَامليها بَعدَ أن تَمَنَّعَت ظُلماً عَن إعادتها لفترة طويلة. بذلك يكون هذا التعديل قَد رَفَعَ دفترياً جِزءًا من الظُّلم اللاحق ببعض المودعين عبر إعادة إدخال أرصدة حسابات الادخار وَبرامج التأمين والتعويضات مجدداً إلى المَصارف. لا تُشَكّل هَذه الخُطوة، على الرغم من أهميَّتِها المَعنويَّة، إنصافاً حقيقياً للمُستفيدين منها بل سَتَعود هذه المَبالغ إلى سِجن المَصارف الكبير ولَن يُعاد مِنها إلا ما قَلّ.
عَمَلياً، بَعد خَمس سَنوات على بِداية الانهيار، باتَ عَدَد الشيكات المَصرفيَّة غَير المُظَهَّرَة التي لا يَزال حامِلوها يَحتفظون بها ضئيلا لِدَرَجَة النُدرة. فالمَصارف عَمَدَت إلى تَعديل الشيكات المَصرفيَّة المُصدَرَة لِمصلحة “المُستفيد الأول” والتي تَستَوفي شُروط هذا التَّعديل عَبر إلغاء هذا الشَّرط. أتاح ذَلِكَ لحِاملي هذه الشيكات بَيعَها للمُضاربين أو للشركات مباشرةً مقابل المَال أو مُقابل إصدار شيكات عاديّة. نُشير الى أنَّ هذا النوع من التَّعاملات ازدَهَرَ بَعدَ أن مُنِعَ المُودعون مِن إِدخالها إلى حِساباتِهِم في مَصارِف أُخرى. فإيداع الشيكات في الحسابات كان مسموحاً فَقَط للأشخاص المَعنويين ودون ضَوابِط حَقيقيَّة. في سياق مُتَّصِل، سَاهَمَ تَرَدّي الأوضاع وانِسداد الأفُق بِدَفع أصحاب الشيكات إلى بَيعِها خوفاً من تَدَنّي قيمتِها السوقيَّة وهو ما حَصَلَ فِعلاً. في المُحَصّلة، يَبدو تَعديل التَّعميم 147 تَدبيراً حَسَنُ النيَّة وقَليل الفَعاليَّة بما يختصّ بتَوسيع مِروحة المُستفيدين من التَعاميم. يَبقى أنَّ تخفيف وطأة الأزمة لا تَقَع على مصرف لبنان وَحدَهُ، وإن كانَ شريكاً اساسياً في الانهيار، وأنَّ من يَحتاجون المُساعدة ليسوا جَميعُهم من عُملاء المَصارف. لِذَلك باتَ الحلُّ الشامل ضرورةً انسانيَّةً واجتماعيَّةً مُلِحَّة قبل أن يكون ضرورةً اقتصاديَّة شديدة الإلحاح!
في قراءة تَحليليَّة للواقع النَّقدي، يَبدو وكأنَّ لِتَعديل التَّعميم 147 أهداف تَتَعَدى إعادة الأموال العالِقَة في الشيكات المَصرفيَّة إلى مُحاولة خَفضِ عَدَدِها وحَجمها. قَد يَعود ذَلك إلى أنَّ الأزمة أغرَقَت الأسواق بِأعداد كَبيرة من الشيكات وهي غَير مَطروحة للتَداول حالياً بِانتظار ارتِفاع سِعر تَدَاولِها. يُشَكل الرَّفع المُرتقب لِسعر الصَّرف الرَّسمي من 15000 ليرة إلى سعرٍ أعلى أبرَز العَوَامِل المُسبّبة لِهذا الارتِفاع المَوعود. نُشير في هذا الإطار إلى أنَّ أي تَوَجُّس حِيال تَحَسُّن قيمةَ الشيكات الإسميَّة إنَّما هو مُرتبطٌ بِما سَيُجنيه المُضاربون مِن إيراداتٍ غير مَشروعة وَلَيس مِمَّا قَد يُجنيه بَعض المودعين مِن أصحاب الحَظّ السَّعيد مِن الشيكات التي قَد تبقى في أيديهم بَعدَ أن يكونوا قَد قَطَعوا الأمَل مِن استردادِها أو صَرفِها. إلَّا أنَّ محاولات تَقليص عَدَد وحَجم الشيكات لَن يُفضي هو أيضاً إلى أي نَتيجة تُذكر. فالتعميم المُعَدَّل يَقتَصِر فَقَط على الشيكات المَصرفيَّة التي لا تُشَكل سِوى جِزء بَسيط مِن مُجمل الشيكات كما ذكرنا آنفاً. أمَّا الشيكات التي تَستَوجِب حَلاً فَهي تِلك التي تُتخِمُ مِحفظات المُضاربين وهي تُشَكل قُنبُلةً مَوقوتةً يَبقَى صاعِقُها الى الآن عَصياً على التَّعطيل. السَّواد الأعظم من هذه الشيكات لَيس مَصرِفياً وهي مُحَرَّرَة دونَ تاريخ ودون تَدوين اسم المُستفيد مِمَّا يَجعل تَتَبُّعِها مُستحيلاً. لا بَل إنَّ الأخطر هو أنَّ الحسابات التي سُحِبَت عَليها هذه الشيكات تَستَفيد بِمُعظَمِها مِن تَعَاميم مَصرِف لُبنان 158 و166 ومِن تعديلاتها بِما يُشبه سُخرية القَدَر. أمَّا البَقيَّة البَاقية فَشيكات مَصرِفيَّة مُظَهَّرة لا تَقَع هي أيضاً تَحتَ مُندرجات التَّعميم 147 بَعدَ تَعديلُهُ.
بَعدَ خَمس سَنَوات على بِداية الأزمة، لَم تَعُد التدابير والمعالجات تُقَدَم شيئاً فلبنان وَصَلَ اليَوم في نُقطة اللاعودة.
لا بُدَّ أن تُشكل نهاية الحَرب بِدايةً للتوافق على حُلول بنيويَّة في السياسة تَضَعُ تعَريفاً دَقيقاً لِمَفهوم الوَطَن والمُواطنة والانِتماء والسّيادة والشَّرعية.
لبنان اليَوم بِحاَجة لِتَحديد الأسس التي سَتَرتكز إليها إعادة إعمار حَجَره ونهوض بَشَرِه واستدامة اقتصادِهِ وسياسَتِهِ الخارجيَّة ومستقبل ابناءه.
أعان الله لبنان!