بقلم جوزاف وهبه
قبيل رحيله الدراماتيكي المفاجئ، وفي سياق تسويقه الديماغوجي لنظريّات توازن القوى (أو الرعب) مع جيش العدو الإسرائيلي (مدينة مقابل مدينة، مدنيّ مقابل مدنيّ)وقدرة المقاومة على حماية الطائفة الشيعية ولبنان،بالإضافة إلى الدور المؤثّر المفترض في إسناد مقاومة غزّة وأهل فلسطين على طريق أداء الصلاة في القدس، أطلق الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله سرديّة محكمة حولما أسماه “الإحتكام إلى الميدان” بمعنى أنّ كلّ الإغتيالات المتسلسلة التي طالت القيادات والكوادر وصولاً الى العناصر، بما فيها البايجرز (ظاهرة العمل الأمنيالمعاصر)، إنّما يمكن تخطّيها وقلب المعادلات العسكرية حين يلتحم الجيشان المتساويان المتحاربان:مقلاع داوود من جهة..وطيور أبابيل المهدي المنتظر من جهة أخرى!
فهل صحّت أو تصحّ مقولة السيّد نصرالله، والتي بات يردّدها من بعده كلّ الممانعين (ومنهم الأمين العام الجديد الشيخ نعيم قاسم) في خطبهم وإطلالاتهم الإعلامية، أم أنّها تبقى مجرّد محاولة للحشد والتعبئة وإطالة أمد إبقاء الأصبع على زناد الحرب، ريثما يستوي أوان جلوس الكبار على طاولة المفاوضات وتوزيع المغانم؟
لا شكّ أنّ المقاومة الإسلامية (قوّات الرضوان..وغيرها من القوى المقاتلة) قد أبلت بلاءً حسناً في مواجهة توغّل العدو في الأراضي اللبنانية، حيث سقط لهم عشرات القتلى والجرحى في ملحمة بطولية تستحقّ الثناء والإجلال، ولكن هل “خسائرنا” بالمقابل توازي خسائر جيش العدو..وهل يمكن لهذا الصمود اللافت أن يبدّل جذريّاً ونوعيّاً في خواتيم هذه الحرب المدمّرة، بكلّ ما تحمله العبارة من آثار طويلة الأمد في البشر والحجر؟
بعيداً عن منطق التخوين واستسهال إطلاق تهم العمالة والصهينة وإضعاف الشعور الوطني القومي (حسب توصيف النظام السوري) يمكن الجزم بأنّ دفّة الأرباح والإنتصارات المَبينة لا توازي دفّة الخسائر والأثمان الباهظة التي يتكبّدها البلد، وتتكبّدها الطائفة الشيعيّة تحديداً:
مقابل كلّ صاروخ (باليستي أو ثقيل أو فرط صوتي أو بحري، كما جاء في آخر بيان للمقاومة حول صلية صاروخية من نوع ستيلا ماريس..) هناك بلدة جنوبية، بأمّها وأبيها كما يُقال، تُباد وتُسوّى بالأرض بمعنى تُمحى من الوجود، فلا يبقى أثر أو حجر أو بشر..والسلسلة تكرّ:عيتا الشعب، بليدا، كفركلا، العديسة.وبتنا نشاهد دماراً تدريجيّاً مماثلاً يمتدّ من ضاحية بيروت الجنوبية، إلى وسط ومحيط مدينة صور التاريخية الجميلة!
ومقابل كلّ جندي عدوّ أو ضابط برتبة عالية يُقتل، هناك قافلة من الشهداء يسقطون، أمّا اغتيالاً كما في قائمة القادة الشهداء (وفي طليعتهم الأمين العام، والخليفان المفترضان السيّد هاشم صفي الدين والشيخ نبيل القاووق، ومعهم حشد من قادة الصفّ الأوّل..)، وأمّا على جبهات القتال عند الحدود البريّة حيث “الميدان” يتكلّم ويتألّم، وحيث ينتشر الموت والخراب في ما يشبه “القيامة الآن”!
“الميدان” وحده لا يمتلك الحقّ ولا القدرة على النطق بالكلمة الأخيرة في ما نعيشه وفي ما يمرّ به البلد من مرحلة مصيرية قاتمة:
النازحون (وهم بمئات الألوف) يتكلّمون، وهم على أبواب الشتاء “صفر اليدين” بالرغم من مساعدات حزب الله، وبالرغم من إندفاع الجمعيات الأهلية.فلا شيء يضاهي دفء سقف بيت، ولا شيء يضاهي خسارة فلذة كبد أو جنى عمر..ولا يشفي الغليل حديث عن مئة أو مئتي ألف إسرائيلي تركوا بيوتهم في المستوطنات.فهناك دولة تأويهم في فنادق وملاجئ مجهّزة للساعات الصعبة، فيما نحن ننتظر حميّة الرئيس الفرنسي ماكرون الذي يريد أن يغطّي فشله السياسي في مقاربة الأزمة اللبنانية، بمؤتمر باريسي بالكاد نجح في تأمين وعود بحوالي مليار دولار مساعدات!
للإقتصاد أيضاً كلمته، ونحن نعبر منذ العام 2019 وسط نكبة مالية غير مسبوقة أوصلتنا الى “اللائحة الرمادية” في التصنيف المالي العالمي، وربّما تودي بنا إلى تداعيات “اللائحة السوداء” التي تجعل منّا صومالاً أو سوداناً آخر!
للشهداء من المدنيّين (نساءً وأطفالاً وشيوخاً) أيضاً رأي ووجهة نظر.فلا يحقّ لأحد، أكان باسم فلسطين أو باسم المهدي المنتظر أو باسم كربلاء ومقتلة مضى عليها أكثر من 1400 سنة، أن يرسم قضاءهم وقدرهم مهما كان على صواب، ومهما كان على صورة بطل.عشقه للموت لا يبرّر له التضحية بالآخرين.والإستماع إلى بعض الأصوات المتحمّسة أو المغلوب على أمرها (فدى السيّد، وفدى الحسن والحسين) لا يبيح الدخول في لعبة الدم إلى ما شاء الله، أكان بحجّة الصلاة في المسجد الأقصى، أو كان بحجّة التحرير ووحدة الساحات ومقارعة الشيطان الأكبر!
“في الميدان” لا يعني أن نتقبّل الشهادة في سيّارة عابرة، أو تحت ركام بناية، أو في قرية مسالمة.”في الميدان” عبارة قد تصلح في معركة محدودة، ذات قواعد وأخلاق وخطوط حمر.وليس في مواجهة تنّين ينفث ناراً حارقة، ولا نملك في إطفائها سوى الدعاء، وبعض الزنود السمر الذين يقاتلون ويُقتلون كما في الحكايات.الثمن باهظ، وباهظ جدّاً. ورواية “رجال في الشمس” للكاتب المقاوم غسّان كنفاني لم تعد تصلح لهذا الزمن.زمن البايجرز والمسيّرات والذكاء الإصطناعي.أوقفوا المجزرة.أوقفوا هدم وطن وتشرّد شعب بكامله..فبعد حين لا ينفع ندم، ولا ينفع “لو كنت أعلم”!