بقلم خالد صالح
يُقال أن رجلًا مقتدرًا دخل أحد محال البقالة وسأل صاحبه عن سعر “كيلو الموز”، فأجاب البقّال : الموز بـ “عشرين ليرة” والتفاح بـ “ثلاثين” إن أحببت !!، وفي هذه اللحظة دخلت إحدى السيّدات فسألت البقال: كم سعر الموز ؟، فقال البقال: الموز بـ “خمسة ليرات” والتفاح بـ “عشر ليرات” .. فهمست المرأة “الحمدلله” !!
نظر الرجل المقتدر إلى البقّال نظرة غضب شديدة وأراد التشاجر معه، لكن البقال غمزه ليهدأ، ثم قام بوزن كيلو من الموز وآخر من التفاح للمرأة وقبض ثمنها، فخرجت وهي تردد “الحمدلله، الحمدلله، اليوم الأولاد سيأكلون الموز والتفاح” ..
التفت البقال للرجل المقتدر وقال له ” والله، والله، لم أغشّك، ولم أكذب عليك في الأسعار، لكن هذه المرأة صاحبة أربعة أطفال أيتام، وترفض أي مساعدة من أي شخص كان، وكلما أردت أن أساعدها ترفض ولا تقبل، وفكّرت كثيرًا كيف أساعدها من دون أن أذهب بماء وجهها، فلم أجد إلا هذه الطريقة وهي خفض الأسعار لها، أريدها أن تشعر أنها غير محتاجة لأحد، هذه المرأة تأتي مرةً كل أسبوع وأقسم بالله أنها حين تأتيني أربح أضعافًا مضاعفة وأرزق من حيث لا أحتسب، لأن أعظم تجارة مع الله هي “جبر الخواطر” ..
النازح كريم ابن كريم
لم تكد الحرب تبدأ بكل ما حملته ولاتزال تحمله من ويلات وكوارث على البلاد بشرًا وحجرًا، حتى طفت مسألة “النزوح” إلى سطح الأحداث، وهبّت أجهزة الدولة والمؤسسات الاجتماعية والبلديات والجمعيات الأهلية للتعاطي مع هذه الأزمة والوقوف بجانب النازحين الذين أرغمتهم الحرب على ترك بيوتهم وأرزاقهم وجنى أعمارهم بحثًا عن مساحة من الأمان من آلة القتل والتدمير الاسرائيلية .
لكن وللأسف هناك البعض من الذين ظهروا بتعاملهم مع “النازح” بأسلوب فيه من الدناءة الشيء الكثير، فظهرت استغلاليتهم وانتهازيتهم بشكل فاضح، وبدأوا بالتعامل مع أهلنا النازحين بأن الأمر “فرصة” يجب عدم تفويتها، وبدلًا من التعامل مع النازح بصفاتنا الانسانية، خرج البعض عن هيئته البشرية وصار يتعاطى مع النازح بفوقية مقيتة نازعًا من قلبه سمات الرحمة والتقدير .
“النازح” المضطر الذي ترك خلفه بيتًا وعملًا ومساحة للعزة والكرامة، لا يُعامل بطريقة فيها شيءٌ من التقليل من كرامته أو المسّ بها، هذا الذي اضطرته الحرب للهروب من آلة القتل، لديه من عزّة النفس ما يكفي وأيضًا من القهر ما يكفيه، هو مواطن لبناني، كريم وابن أصل، وعلينا أن نترفع عن أطماعنا وبحثنا عن المكاسب، وأن نتاجر مع الله بأعظم تجارة وهي “جبر الخواطر” ..
لا تذبحوه مرتين
أجمع اللغويون أن “الخاطر” هو القلب، وعدم كسره خلق عظيم، ولو تحققنا فسوف نجد أن كل الشرائع السماوية والقيم الانسانية قائمة على جبر الخواطر، والوقوف بجانب بعضنا البعض وتهوين المصائب على الآخرين أو الأخذ بأيديهم حتى تمر المصيبة، وفي جبر الخواطر نبل وشهامة، والنازح ليس “عبئًا” يجب أن ننفر منه، بل هو “مواطن” محنته تفوق قدرته على التحمل .
لم يخرج من بيته إلا مرغمًا، ولم يترك عمله إلا مكرهًا، يقول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه “من كفّارات الذنوب العظام، إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب”، ومن يراجع أحداث حياته سيجد في كل يوم عشرات المواقف التي تستحق من لحظة تأمل، خصوصًا عندما تعمل على جبر الخواطر، فمن كان جابرًا للخواطر، أدركته عناية الله في جوف المخاطر، فلنتمتع بشيء من القيم والمبادىء السامية والانسانية السمحاء، ولا نذبح “النازح” مرتين ..
يقول الشاعر :
جبر الخواطر دأب أولي النهي
وترى الجهول بكسرها يتمتع
فاجعل لسانك بلسمًا فيه الشفا
لا مشرطًا يُدمي القلوب ويوجع ..