بقلم خالد صالح
دولة الرئيس:
ذات يوم سألَ أحد الوزراء الرئيس الفرنسي “رينيه كوتي” : “سيدي الرئيس ما الفرق بين السياسي ورجل الدولة؟”.. فأجاب : “الفرق بسيطٌ جدًا، رجلُ الدولة يريدُ أن يعملَ شيئًا من أجل بلاده، والرجلُ السياسي يريدُ من بلاده أن تفعل شيئًا من أجله” .. وعندما تّم تنصيب “كينيدي” رئيسًا في العام 1961 قدّم قاعدة سياسية رائدة في تعبيره عن الإنتماء والوطنية عندما قال : “لا تسأل ماذا يُمكن أن يُقدّم لك بلدك .. بل إسأل ماذا يُمكن أن تُقدّم لبلدك”.. .. فالكثيرون في وطننا لا يعرفون التفريق بين رجل الدّولة ورجل السياسة ..
حبّذا لو تابعتَ أصداءَ لقائك الأخير مع وزير الخارجية الروسية وكيف تلقّفَ اللبنانيون الخبرَ كـ “مطرٍ بعد قحط” وكيفَ تنفسّوا الصعداء، مستبشرين بزوالِ الغمّة عن قلوبهم وأن عودتكَ إلى العمل السياسي صارت قابَ قوسين أو أدنى، هذه العودة التي تُشكّل بالنسبة لهم خشبة الخلاص، ويعتبرونها عودة الأمل، عودة لغة المنطق والاعتدال .. عودة الوطن ..
دولة الرئيس:
منذ أن ساقتكَ الأقدار وتلك الجريمة الزلزال إلى ميدان السياسة، وأنت تشعرُ بثقل المسؤولية الملقاة على كاهلك، حتى في أحلك الأوقات وأصعبها، تعاليتَ على نفسك كثيرًا وبذلت كل ما بوسعك من جهود وعرق لقيام الدولة التي أرادها “الرفيق الشهيد” دولة المواطنة والمواطن وسيادة القانون والحياة الكريمة، الدولة التي تحمي الجميع تحت مظلّتها، كنتَ الرجل الذي يقرأ في كتاب تاريخ البلد، ويقاربه مع الواقع، ليتلّمس درب حقيقة المستقبل ..
كم كنت صادقًا في 24 كانون الثاني 2022 حتى حدود الدهشة، لأنّهم اليوم أدركوا أنّ ما قمتَ به لم يكن “فلتة شوط”، بل قراءة متأنية ودقيقة لتقاطعات كبيرة وأن مصيرَ لبنان ليس بمنأى عنها، وأن الشركاء في الوطن يرفضون الإنصاتَ إليك و “كل واحد راكب راسه”، وأن الاستمرار في خطوات معروفة النتائج هو ضرب من الجنون، لذلك رميتَ الحجر في المستنقع الراكد لتحرّك ماءَه، فاتهموك تارة بـ “الهروب” وأخرى بـ “التخلّي” وثالثة بـ “نهايتك السياسية” ..
وكم كان “قلبك” نقيًا ليرزح تحت وطأة الأحداث، فلم يتحمّل رغم صلابته وقوته ونقاوته ما يحصل لـ “لبنان” الذي تحبه “حبّين” .. حب “رفيق” وحب “سعد”، فوقع أسير الضغوط التي انهالت عليه وأنت ترى بأمَ العين أيَ هاويةٍ يُساق البلد إليها، وأيّ دركٍ أسفل بانتظارنا، ناديتَ بكلّ ما تملكُ من حكمةٍ ورزانة “الله يعين البلد” فضحكوا من هذا النداء، حتى صرنا اليوم كلّنا نقولها مع كلّ غارةٍ ومع سقوط كلّ شهيد أو مبنى ومع كلّ دمعةٍ تسقطُ من عين نازح ..
دولة الرئيس:
لبنان الذي قدّمته على كل شيء فجلعته “أولًا” .. يئنُّ وجعًا وينزفُ ألمًا وجسدُه تمزّقه الغارات الهمجية المعادية بلا رحمة، هل سألتَ نفسك السؤال المحبّبِ إليكَ “ماذا كان رفيق الحريري سيفعلُ لو عايش هذا الأمر؟”، نعلم تمامًا أن قرارَ التعليق كان الدليل الساطع على أن لبنان دخلَ مرحلة “الفراغ” الحقيقي، وأنك وحدك لايمكنك مواجهة هذه التحدّيات، لكنك وحدك القادر على إعادة وصل ما انقطع، لذلك فإن الوقت قد حان لوضع حدّ لهذا التعليق وبذل الجهد لانتاج الموقف والقرار، آن الآوان لعودة “الغربان” إلى أوكارها وعودة “الصقر” إلى التحليق ..
وبيروت التي تعشقها لأنها “ست الدنيا” وترابها يضم أطهر الأجساد، والتي تعالت على جراحها ونزيفها لتلعب دور “إم الكل” الحنون والرؤوم، تحضنُ وتساندُ وتلملمُ جراحات الأحبة والأهل، تحتاجُك بعدما استباحَها رعاع السياسة وأوباشها، بيروت التي ما أعطت لأحدٍ ريادتها إلّا لرفيقها وسعدها، بيروت التي عانت قبل أن تكرّس الولاء لمن أعاد ربط شرايينها التي مزقتها الحرب الأهلية، بيروت التي تشهد تدمير العدو لضواحيها، بيروت التي لاتزال تراهن على حبك في بلسمة جراحاتها ..
عذرًا يا دولة الرئيس
الأمل والفرح برؤيتك سالمًا أولًا بعد الوعكةِ الصحيّة التي ألمّت بك، ورؤيتك تلعب دورك المنوط بك كـ “زعيم” و “لبناني حريص” على وطنه ثانيًا، يجعلني أقولُ لك بأنكَ لا تمتلكُ “حريتك” بالحضور والغياب، فهذا الشعبُ يرتبط بكَ كارتباطِ بياض العين بسوادها، هذا الشعبُ يحتاجُ وجودكَ للإبقاء على مقوّمات صموده وتشبثه بأرضه، فقد انقطعت به السبل منذ غياب اللغة الوطنية التي أنت عنوانها وتكاد تكون الأوحد، ولم يعد التعليق مناسبًا، بعد أن ارتفعت الشعارات الفارغة وقلّت الأفعال الحقيقية، وصار حضورك واجبًا بعد أن أصبحَ التراشق المذهبي المقيت سِمة واقعنا، وصرنا بحاجةٍ ماسة إلى اللغة الوطنية التي كنت ولاتزال أنت صنوها الدائم .
عذرًا يا دولة الرئيس
صار غيابك عن الساحة مؤلمًا جدًّا فأنتَ اليوم لم تعد وحدكَ مَن يملك قرار الغياب، وطنكَ يحتاجُكَ وجماهيرُك التي عاهدتك أن تبقى “معك .. ع المرة قبل الحلوة” تشتاقُ لمواقفك التي تُطمئنها على مستقبل الوطن، ولو عَلمتَ كيف تلقّفوا خبرَ اجتماعك الأخير وكأنه “فجرٌ” انبلج بعد “ليلٍ” طويل”، سيكون سهلًا عليك أن تُدرك إلى أيّ مدىً أصبحوا متعطشين إلى الجاذبيةِ الوطنية التي ستسحبُهم من قعرِ الهوة و “جهنم” التي بلغوها إلى بر الآمان ..
دولة الرئيس:
لم يعد الواقع القائم بين حضورٍ وغياب يُناسبُ ما نعيشه في وطننا الجريح، فأنتَ الحاضرُ رغمًا عن إرادات مَن أراد تغييبك، أنت “أسيرُ” قدرك الذي ساقك إلى حمل الأمانة وتأدية رسالة الرفيق الشهيد، وعليك أن تواجه قدرك كما عهدناك .. إنها معضلة “القدر” بمواجهة “الحرية” .. قدرك الذي أرغمك على تقديم مصلحة بلدك على كلّ اعتبار، رغم المحاولات التي قوبلتَ بها وهدفها شطبك من المشهد السياسي..
أختم دولة الرئيس :
قبل مدة استقالت رئيستان للوزراء في وقت واحد .. الأولى رئيسة نيوزيلندا “جاسيندا أرديرن”، قالت إنها تعبت من هذه المهمة، وقالت: “أنا أستقيل من هذه الوظيفة التي فيها امتيازات كثيرة، ولكنها أيضا تترافق مع مسؤوليات كبيرة، ومسؤولية أن تعرف متى تكون الشخص المناسب لتقود شعبك وبين متى لا تكون” .. أما الثانية رئيسة وزراء إسكتلندا “نيكولا ستورغون”، استقالت أيضا من “وظيفتها”، واعترفت هي أيضا بفشلها، بعباراتٍ مختلفة، قالت إن مشروع الاستقلال عن بريطانيا، الذي حملها إلى سدّة الرئاسة، لم يتحقّق، وإنه اقترب من مرحلته النهائية، وإن البلاد تواجه “تحدّيًا مزدوجًا”: الأول “إقناع غالبية دائمة وصلبة، من الناخبين بمشروع الاستقلال”، والثاني إيجاد “طريقٍ لمواجهة المعارضة اللاديمقراطية”..
والسيدتان، النيوزيلندية والإسكتلندية، حزينتان، لكنهما لا يبدو عليهن التعب، إنما شيءٌ من الانشراح، بالتخلّي عن مسؤوليةٍ تريان أنهما غير قادرتين على تحمّلها، إنهما تتمتّعان بالحرية، مثل المجتمع الذي تقْودان، لكن بينهما وبينكَ يا دولة الرئيس فرق “الحرية”.. هما في وسعِهما الاستقالة، أما أنت الزعيم، فلا يستقيل ولا يترك واجبه فهذا قدره، لا تُغريه الحرية، ولا أدواتها، فلا حياة له سوى في حياةِ وطنه وأهله .. إنك سجين قدرك وطبائعك وحظك وإرثك الثقيل .. وشعبك الصّابر، السجين بدوره..