بقلم جوزاف وهبه
لا يكفّ رئيس المجلس النيابي نبيه برّي عن الإستمرار في لعبة التذاكي أو التشاطر اللبناني، كما في آخر تغريدة له حول ما يتمّ تداوله من مباحثات بالنسبة لنقاط ورقة أميركية تهدف إلى وقف الحرب اللبنانية – الإسرائيلية أو إلى وضع حدّ للعنف الإسرائيلي اليومي على الضاحية والجنوب والبقاع وكلّ البلد، إذ قال أنّ تهديدات العدو “ما بتمشيش معي”، فيما البنايات والبيوت وأرزاق الناس تتطاير من حول عين التينة، مخلّفة خسائر فادحة في البشر والحجر لا يمكن تعويضها بأيّ شكل من الأشكال، رغم “المزحة السمجة” لدوائر حزب الله التي عمّمت خبر امتلاكه في خزائن سرّية لا تطالها القنابل الخارقة الحارقة “15 مليار دولار” جاهزة عدّاً ونقداً لتعمير ما قد تهدّم فور وقف القتال، وهو رقم (أي 15 مليار) أراد الحزب منه طمأنة بيئته النازحة، ولكنّ حجم الرقم يفضح قائليه بأنّه مجرّد هراء ووعود..كالوعود في حماية الأرض والعرض، وفي التوازن الإستراتيجي مع إسرائيل وأميركا، وفي الصلاة الأكيدة في القدس بعد زوال الكيان الصهيوني ب “7 دقائق ونصف” وهزّ الإمبراطورية الأميركية بما تبقّى من دقائق النصف ساعة، كما جاء على لسان أحد كبار قادة الحرس الثوري في طهران!
ومثله يفعل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إذ يردّد أنّ الدولة اللبنانية موافقة على القرار الدولي 1701، مضيفاً من وقت لآخر عبارة “بكلّ مندرجاته”، مع علمه الأكيد أنّ كلّ الخلاف والإختلاف بين نتانياهو وحزب الله إنّما يدور حول مضامين هذه المندرجات، حيث يعتبرها الحزب مجرّد خطوة تكتيكية إلى الوراء لعدّة أشهر من الزمن (كما جرى بعد حرب 2006)، فيما ترى فيها إسرائيل مسألة استراتيجية تضع نهاية ثابتة ودائمة للخطر الكامن على حدودها الشمالية وعلى مستوطناتها في الجليل الأعلى، لمدّة تزيد على المئة عام على الأقل!
وثالثهما الزعيم وليد جنبلاط إذ يحاول “شراء الوقت” بزيارات مكّوكية بين السراي الحكومي وعين التينة، مطلقاً بعض المواقف الإعتراضية على التدخّل الإيراني السافر في لبنان، والممسك بقرار حزب الله بالمباشر بعد سقوط جميع قيادات الصفّ الأول ومعظم قيادات الصفّين الثاني والثالث، دون أن يجرؤ على البوح بما يفكّر به في رسوماته الإيحائيّة:لقد آن الوقت لتسليم الحزب سلاحه إلى الجيش (أو إعادته إلى إيران)، وآن الوقت للتحوّل النهائي من العسكر إلى السياسة، بما تقتضية مصلحة الطائفة الشيعية، وبما تقتضية المصلحة اللبنانية..جنبلاط يتشاطر على الواقع (أمّا خوفاً، وأمّا تهرّباً من تحمّل المسؤولية)، ولكنّ ثمن هذا التلكّؤ قد بات باهظاً (وباهظاً جدّاً) على الجميع دون إستثناء!
..ويبقى “الشاطر الأكبر” (وليس الشيطان الأكبر) هو ما تبقّى من الحزب من قيادات ومقاتلين (شرسين أو غير شرسين) الذين لا زالوا يأخذوننا إلى “سرديّة الميدان”:والسؤال، ما الذي بتنا نشاهده ونراه فوق أرض هذا الميدان، وبالعين المجرّدة، ليس إلّا؟
بلدات وقرى مُبادة بالكامل، إلى درجة أنّ أحداً من أهاليها لم يعد يعرف مكان أرضه أو حدود بيته وملكيّته.مدن، مثل صور والنبطيّة، تتحوّل تدريجيّاً إلى أثر غابر أو كومة حطام، بلا سكّان ولا أراضٍ زراعية ولا أماكن عمل.يستبسل المقاومون، وهم شجعان دون شكّ، ولكن مَن يستثمر في هذه المقاومة وهذا الإستبسال، وليس هناك قيادة ولا هرميّة حزبيّة، بل “وليّ الفقيه” يطلّ من طهران، أو يأتي في زيارة عابرة إلى لبنان نافخاً فيهم (وفينا) مزامير الموت والشهادة تحت عناوين دينيّة برّاقة أقرب إلى الخرافة منها إلى الدين اليقين.ما بنته الطائفة الشيعية في الضاحية الجنوبية لبيروت، على مدى عشرين أو ثلاثين سنة، من إقتصاد ومصالح قد بات “ذرّ رماد” جرّاء الغارات المتتالية ليلاً نهاراً..إضافة إلى الإغتيالات التي تطال قيادات وعناصر ما يشي بانكشاف أمني فاضح.كلّ هذا يجعل التساؤلات مباحة:هل بقي من مجال لتعداد خسائر العدو، وتجاهل خسائرنا، كنعامة تدفن رأسها في الرمال؟ هل يمكن البناء على الصراعات التي تدور في الحكومة الإسرائيلية، وهي مجرّد لعبة ديمقراطية داخلية؟ هل يجوز أن نبني استراتيجية الإنتصار أو الهزيمة على سرديّات ثبت بالملموس والممارسة بطلانها، من وحدة الساحات إلى الطريق نحو القدس، إلى “النصر صبر ساعة” كما جاء في كلمات آخر الشهداء مسؤول الإعلام الحاج محمد عفيف؟
لم يعد يجوز كلّ هذا التشاطر.لم يعد يجوز كلّ هذا النكران للواقع الأليم.لم يعد يجوز أن نتلهّى بالوقت الضائع.ففي كلّ دقيقة تتهاوى عمارة.وفي كلّ دقيقة يسقط شهيد.والموت يحصدنا بالعشرات والمئات، فيما “نهلّل” لقنص جندي أو عطب جرّافة أو نجاح مسيّرة في اختراق أجواء العدو.الحرب لم تعد لصالحنا.نحن خاسرون، ونخسر مع استمرارها أكثر فأكثر.ولم يعد لأيّ مسؤول الحقّ في التزام الصمت أو الوقوف على الحياد.نحن محاصرون، والحرب لن تنقذنا.السلام، بشروط قيام الدولة وأساسها وضع السلاح في أمرة الجيش اللبناني وإعادة قرار السلم والحرب حصراً إلى الإرادة اللبنانية، وحده يخرجنا من هذا النفق الأسود…فهل يُقدِم المسؤولون قبل فوات الأوان، وهل يُقدِم الحزب قبل “خراب البصرة”..وهل ينجح المبعوث الأميركي هوكستين في زيارته الرقم 11 إلى بيروت؟