كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:
انتهت الحرب؟ لم تنتهِ؟ ربما تتجدّد؟ من يدري… ولكن شيئاً لن يتغير في المشهد. الدمار الذي خلّفه العدوان حتى اتفاقية وقف النيران كبير جداً. هناك باطون وحجارة وحديد وخشب وزجاج تناثر مع ممتلكات المنازل في كل مكان. الكثير منه في الواقع… هذه ليست سابقة طبعاً، لكن من يمكنه أن يدّعي اكتساب خبرة أو حتى معرفة بإدارة كل هذه الفوضى؟ لا بد أن يكون البحر خياراً مكرراً. وربما يتكرر ويتكرر إلى أن نصل اليابسة باليابسة… فما المانع؟ الحروب في لبنان متكررة أيضاً، ولدينا واحدة منها في كل عقد تقريباً وأقصاها خلال العقدين المنصرمين. نحن لم ننجح، على الأرجح، في رمي الحروب خلف ظهرنا، لكن دولتنا بارعة حتماً في رمي سمومها كما هي، سواء في البحر أو في المطامر والمكبات.
بعد أن طوى اللبنانيون صفحة حروب مدمرة ظنّوا أنهم لن يشهدوا مثيلاً لتداعياتها منذ حُرر جنوبهم في العام 2000، ثم في العام 2006، فها هو عدوان 2024 يعيد عقارب الزمن إلى الوراء. مشهد الدمار الذي خلفته الغارات الإسرائيلية في الضاحية والجنوب والبقاع، يكاد يوازي حصيلة دمار سنوات الحروب المتكررة على الأرض اللبنانية قبل اتفاق الطائف، ولا توازيه بالحجم أي كارثة لاحقة لاتفاق مرحلة الإعمار، لا في تموز 2006 ولا في 4 آب 2020. وهذا ما يطرح السؤال مجدداً، ماذا سيحلّ بكل هذا الركام وأين سنذهب به؟ هل نردم به شاطئاً جديداً يلزّم لأغنياء الحروب المتعاقبين على مغانمها؟ أم نغرق مجدداً في دوامة الحلول الاستثنائية المتحولة في لبنان دائماً خيارات نهائية؟ وهل ثمة أمل بعدم تجرّع كأس الحرب المرّة، أقله بالبحث عن حلول من خارج إطار التجارب السيئة، علّنا نستخرج من هزيمتنا ربحاً حقيقياً لحلول مستدامة.
خيار البحر مؤجل بانتظار ما يمكن إنقاذه
قبل أيام ترأس رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اجتماعاً للبحث في النتائج التي خلفها العدوان وآلية المباشرة بإزالة الركام. وبحسب المعلومات فإنه على الرغم من الاختلاف في تحديد حجم الأضرار اللاحقة بالمباني، خصوصاً أن هناك منازل كثيرة لم تسقط لكن أساساتها تداعت إلى حدّ الانهيار، كان التوافق شبه تام في الجلسة على استخدام الركام الناتج عنها في ردم البحر، مع توجه برز لنقل الردميات إلى شاطئ الأوزاعي تحديداً.
هذا الأمر لفت إليه كذلك رئيس تجمع “السكراب” أو الركام في لبنان أحمد بربيش، الذي قال رداً على أسئلتنا “إنه اقترح على المعنيين ردم شاطئ الأوزاعي لاستخدامات الصيادين”.
بحسب بربيش “لا شيء سيستوعب حجم الركام الأخير سوى البحر” على أن يتم “تفريغه أولاً من كميات الحديد وتصفيته من المواد التي يمكن إعادة تدويرها. وأوضح “أن البلديات باشرت بأمر من وزارة الأشغال بإزالة الركام عن الطرقات العامة المؤدية إلى الأحياء، بانتظار أن نشارك كجمعية بعملية رفع ركام المباني المهدمة والتحضير للإعمار، لكن بعد انتهاء الحرب”. وإذ يشير بربيش إلى أن الركام المرفوع حالياً ينقل إلى “بوَر” قريبة من المطار، حيث تفرز المواد المعدنية لإعادة بيعها، يشدد على أن علاقة المقاول هي مع السلطات الرسمية مباشرة، تجنباً لعقوبات لم يحدد طبيعتها و”فهمكم كفاية”.
المهمة التالية قد تستغرق بعض الوقت، ليس لأن الحكومة منكبة على البحث عن أفضل الخيارات التي تحقق المصلحة العامة، إنما لأن ركام المنازل يختلط بممتلكات الناس. وقد سمح وقف العدوان، ولو الهشّ، بآخر فرصة للناس كي ينتشلوا منها ما يمكن انتشاله، من مستندات وأوراق رسمية، أو حتى مقتنيات يتعلقون بحبالها على أمل إيجاد سقف يحمي رؤوسهم. هناك مفقودون أيضاً كما يقول بربيش وهذا ما سيتطلب مسحاً دقيقاً قبل المباشرة بأي عمل، حتى يطمئن الناس على الأقل إلى أن ثمة ما يوثّق حقوقهم قبل إزالة مشهدية الأمكنة مع ركامها. أما الجهوزية اللوجستية فمتوفرة، والتوجه لتوزيع المهمة على عدد كبير من المقاولين، وفقاً لإمكانيات كل منهم ضماناً لحسن العمل”.
إنقضاض انتهازي على بحرنا وودياننا وجبالنا
مع ذلك، ليس هناك وفقاً لنقيب المقاولين مارون الحلو “تصور محدد على المستوى الرسمي حول الوجهة التي ستسلكها معالجة هذا الركام”. فهل سيوضع في البحر، أم تقام به مشاريع يمكن أن تخدم اللبنانيين، ولو على أنقاض بيوت متحولة إلى جسور لتمدد المساحات الجغرافية إلى ما وراء اليابسة. من هنا يرى الحلو حاجة لبحث كل هذه الأمور في لجنة عليا بالتعاون بين القطاعين الخاص والعام، لنتمكن كما يقول “من التخطيط للأمور قبل طلب التمويل للمباشرة بالعمل”. وإذ يلفت إلى “تقدم وزارة الأشغال بطروحات جيدة لإزالة الركام عن الطرقات وفقاً لآلية موحدة وأسعار محددة للمقاولين الذين اختيروا بحسب كفاءاتهم وقدرتهم على توفير المعدات الكافية كي ينجزوا الأعمال المطلوبة”، يتحدث أيضا “عن خبرة يمكن تكوينها حول كيفية إعادة تدوير الركام، وتحويله إلى مواد بناء يمكن استخدامها” مشيراً إلى “أن هذه التجارب موجودة في العالم، ولا تحتاج سوى لمعدات يمكن تأمينها لعملية التدوير”.
إذاً، ثمة أفكار أخرى يمكن البحث عنها خارج “إطار البحر”. بعض هذه الأفكار طرح على مستويات علمية هندسية، وبعضها على مستوى السلطات الرقابية، وكان أبرزها للنائبة نجاة عون صليبا التي حذرت من خلالنا “من انتهازيي الفرص الذين سيحاولون الإنقضاض على بحرنا وودياننا وجبالنا”، كاشفة عن كونها بصدد تقديم اقتراح قانون إلى مجلس النواب يستلهم القانون 444 كإطار عام للطرق المستدامة بإزالة كل المخلفات. برأي عون “أن الدمار الكبير بمعظمه مكوّن من باطون وحجارة، بينما الخبراء العاملون بالمضمار يقولون إن هناك نسبة معينة منه يمكن تحويلها إلى بحص أو حجر خفان، وقسم يطحن ويستخدم في سد فجوات الكسارات، أما الحديد والمواد المعدنية فتباع بسعر ليس بقليل”. هذه الآلية إذا اعتمدت برأيها “لن تخلف سوى كميات قليلة من الركام الذي يجب ان يوضّب ويعالج بطريقة مستدامة”.
تشير عون إلى ذلك لتدعو إلى عدم الاستعجال في رفع الركام ونقله قبل إيجاد الحلول المستدامة، لأن التاريخ كما تقول “علّمنا ان هذه السلطة بارعة في استغلال الفرص لتشوه البلد. فهذا ما فعلوه في الماضي عندما طمروا البحر ليقيموا منطقة البيال، وهذا ما فعلوه من خلال النقل العشوائي للردميات إلى “الكوستابرافا”، وفي جزء من الجنوب. وهذا ما تخشى منه في العدوان الأخير على لبنان.
حروب عرّت الحلول
المهندس الاستشاري الباحث راشد جان سركيس له أيضاً رأي مشابه، هو يشير إلى أنه “بعد الحرب التي دامت خمسة عشر عاماً، كان الدمار عاماً وشاملاً، وتعامل المعنيون معه بشكل تجاري. فلبنان ليس بحاجة لتكبير مساحته إذا كان ذلك مضراً بالبيئة الطبيعية. لذا يجب التفكير ملياً بالقرارات المتسرعة التي تؤدي إلى كوارث في نهاياتها، من دون أن يحاسب مسببوها على أفعالهم”.
يضيف سركيس “حرب تموز 2006، كانت محطة ثانية تم التعاطي خلالها أيضاً بعقلية المحاصصة، فوزعت الأشغال على أصحاب النفوذ، وقد حصل ما حصل. وصلنا إلى اليوم التالي للعصف المدمر من تفجير مرفأ بيروت، وسيطرت الفوضى على العمل الذي لم يرسم له أحد قواعد او يضع له أي معايير، أما اليوم وبعد تعرّي كل الطرق السابقة وظهور فشلها وتحطيمها للقيم البيئية وعدم ملاءمتها للمستوى المطلوب في وطن الأرز، يجب التعاطي بأمانة وإخلاص تجاه من قضى في سبيل الوطن، لنبني وطناً يليق بالشهادة والدم المسفوك على مذبحه”.
انطلاقاً من كل ذلك، دعا سركيس “إلى عدم التساهل في مسألة الانتقال إلى مرحلة يفترض خلالها بناء مدننا بشكلٍ حديث يعكس الرقي الحضاري، ويُشكل نقلة في حياة الناس نحو الأفضل”. معتبراً “أننا نحتاج إلى فكرٍ مبدع يخلق وينتج توجهات حضارية علمية راقية، لنقلب أجواء الخسارة المادية السلبية إلى مكاسب إضافية صافية راقية تترجم إيجابية المقاومة المدنية التي بحكمتها يمكنها الانتصار على مفاعيل دمار الآلة العسكرية”.
بين التخلص والاستخلاص
ثمة من يحاول إذا “استخلاص” ولو صورة واحدة مشرقة من مشهد أسود خلفه عدوان إسرائيلي آخر على بلدنا. في مواجهة من يستعجل “التخلص” من آثاره المدمرة، التي لا نعرف حتى الآن إلى أي مستقبل ستقودنا. وفي الأحرف الثلاثة الزائدة بين عبارتي “الخلاص” و”الاستخلاص” يكمن كل الفرق وفقاً لما تبيّنه محاولة الغوص في العلاجات التي يقترحها سركيس. وهو بمحاولته الخروج بأفكاره إلى ما وراء أبواب محافظة بيروت حيث “نصائحه مقدرة”، ويشدد على أن “مصطلح “التخلص” فاشل وغير علمي ولا يجوز القبول به. و يقول “المواد مواد ويجب التعاطي معها بقدر مستوى الخدمة التي نحتاجها منها. والحكمة تقتضي معرفة المكونات وتحديد أنواع الفائدة من كل مكوّن، والزمان والمكان المناسبين لاستخدامه واستثماره بأفضل شكل”.
في رأي سركيس “أبسط ما يمكن فعله بالمواد الناتجة من هدم المباني هو تكسيرها واعادة تحويلها إلى المستوى المفيد على كل صعيد” ويتساءل “لماذا تتعامل الناس مع المعادن بغير ما تتعامل مع الحجر، أليس الإثنان مكونين أساسيين للخرسانة الموجودة؟”.
فما هي الآلية التي يقترحها لذلك خصوصاً في ظلّ كميات الردم المتوزعة على أكثر من منطقة؟
يجيب سركيس “إن ضخامة كميات الردم، تزيدنا قناعة بضرورة التعامل الجدي معها”. أما تنفيذياً فيقترح “تكوين وتشجيع إنشاء شركات متوسطة وصغيرة من خلال تجهيز المواقع بكسارات متنقلة تجوب الأحياء المدمرة و”تطحن” الناتج ضمن قياسات مفيدة للاستخدام المقبل، ويتم تصنيف المواد ضمن سلم هرمي يضعه فريق متخصص بالمواد، يكون جزءاً لا يتجزأ من هيئة خاصة تعيّن لهذه الغاية. وهذا ما سيتيح فرص عمل كثيرة للمواطنين، من ضمن ضوابط قانونية، واحترام المعايير والمقاييس الخاصة بكل مهمة”.
هل من ضرورة للاستعجال؟
المطلوب، في رأي سركيس، “التحول بعنوان المرحلة المقبلة من “إعادة الاعمار” حسب القواعد القديمة إلى “البناء وفق القواعد السليمة”. لذلك يلخص الخطوات المطلوبة للمرحلة المقبلة على الشكل التالي:
“أولاً: إعلان تبني وزارة البيئة الملف بكل مشتملاته.
ثانياً: تأسيس هيئة خاصة بالإطار التنظيمي والقياسي في موضوع المواد والمواقع والتصميم التنظيمي العام.
ثالثاً: وضع خطة تكامل بين التعاطي مع المواد وجغرافيتها وبين التنظيم المديني الحديث الذي يجب التوصل إليه.
رابعاً: تشكيل لجنة نيابية خاصة بالحالة الجديدة لتواكب الهيئة المختصة وتتعاون معها في سياق تشريع النصوص والقوانين التي يجب استحداثها لخدمة المجتمع، وتطوير لا بل خلق البنية الوطنية النموذجية.
خامساً: وضع إطار تنظيمي مترافق مع معايير العمل السليم، وتسهيل تأسيس الشركات، وتوزيع الفائدة على مستوى أفقي لتأمين التكافؤ والعدل في الابتكار وتعميق التعاون المؤسساتي”.
لكن يبقى سؤال آخر … كم من الوقت ستسغرقه عمليات إزالة الركام؟
من وجهة نظر مقاولة، يقدّر بربيش “أن الأمر لا يتطلب أكثر من ستة أشهر” متحدثاً “عن مبانٍ هشة بعضها ينهار “كالبسكويت” مستخلصاً من حالتها استخدام إسرائيل لمواد متفجرة محظورة في العدوان، ومن شأن ذلك فصل الحديد عن الباطون”.
إلا أنه من وجهة نظر “العمل بالقيَم” كما يصفه سركيس فإنه “عندما يأخذ العمل السليم مجراه، لا حاجة لاحتساب الوقت، إذ ستتفوّق فكرة التقدم في استثمار المعرفة. وعليه إذا استعجلنا تأسيس الهيئة، والتزم الأطراف باحترام المعايير الضابطة للمفهوم التعاوني المتوازن، ستتسارع الخطوات مباشرة بعد الإنطلاق بالخطوة الأولى، ما يُشكّل فرصة العمر لتأكيد أرجحية العقل اللبناني الذي يمكنه أن يشكل نموذجاً في الانتفاض على الموت، والقيامة من جديد، بحلة مختلفة، تعالج كل السلبيات السابقة، من خلال النجاح بالتجديد”.