كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
هل يمكن أن يشكّل رئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” السابق وليد جنبلاط جسر لقاء بين رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ورئيس مجلس النواب و”حركة أمل” نبيه بري؟ بين كل اثنين من الثلاثة تاريخ طويل من العلاقات الملتبسة والمعقّدة. من الخصومة إلى الانفتاح والتناغم والتحالف والتباعد والخلاف، ولكن من دون قطع قنوات التواصل. الثلاثة إذا التقوا هل يمكن أن يصنعوا رئيساً للجمهورية؟
في 2 تشرين الأول الماضي، بعد خمسة أيام على اغتيال الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله و15 يوماً على اندلاع الحرب الفعلية بين إسرائيل و”الحزب”، التقى في عين التينة، مقرّ الرئاسة الثانية، الرئيس نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي والوزير السابق وليد جنبلاط. بعد اللقاء دعا ميقاتي باسم الثلاثة إلى وقف إطلاق النار وتطبيق القرار 1701 وانتخاب رئيس للجمهورية.
مشهد الثلاثة كان يدعو إلى القلق. ثلاثة وجوه مكفهرّة في ظرف صعب وحرب قاسية لا يملكون قرار وقفها ولا الخروج منها. بدا ميقاتي أكثر شباباً وحيوية بينما ظهر جنبلاط أكثر يأساً وبري أكثر تسليماً واستسلاماً. يومها بدا وكأنّ هذه المطالب تشبه المستحيل وذكّرت انحناءة ظهر جنبلاط بما كان قاله يوم توقيع الاتفاق الثلاثي في دمشق في 28 كانون الأول 1985، بأن هذا الاتفاق يمكن أن يطبّق على أيام ابنه تيمور، الذي كان لا يزال طفلاً. كان ثالث بري وجنبلاط في ذلك اليوم رئيس الهيئة التنفيذية في “القوات اللبنانية” إيلي حبيقة. لم يطل الأمر أكثر من 17 يوماً حتى أسقط سمير جعجع ذلك الاتفاق في 15 كانون الثاني 1986. فهل يمكن أن يولد اليوم “اتفاق ثلاثي” بين الثلاثة، جعجع وبري وجنبلاط، بحيث يؤدي إلى انتخاب رئيس للجمهورية وإخراج لبنان من أزماته الكثيرة؟ أم أن بين الثلاثة لا تزال تفصل مسافات بعيدة كبعد الكواكب التي لا تلتقي؟
بين جعجع وجنبلاط
بانتظار زيارة وليد جنبلاط إلى معراب للقاء الدكتور سمير جعجع، سيبقى هذا السؤال مطروحاً. بين جعجع وجنبلاط تاريخ من العلاقات المعقّدة والصعبة. ولكن بينهما أيضاً ما يمكن بناء الأمل عليه بقيام حلف أقوى وأمتن وأوسع من اليوميات السياسية. صحيح أن الرجلين يحملان عبء حرب الجبل عام 1983 ولكنّهما أيضاً يحملان عبء المصالحة مع البطريرك مار نصرالله بطرس صفير عام 2001، والتحالف الراسخ بعد لقاء البريستول عام 2003 وصولاً إلى 14 آذار 2005 ومرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
على رغم بعض المحطات السلبية في هذه العلاقة، إلا أنها لم تسقط ولم تنزل تحت سقف التحالف على الأرض والتمسك بروحية الدولة والسيادة. كان سمير جعجع لا يزال في سجن وزارة الدفاع عندما زارته والدته وقالت له: “يا حرام عرفت قتلوا رفيق الحريري؟”. هذه العبارة كانت كافية لقطع الزيارة.
كان جعجع في 14 شباط 2005 شعر بحركة غريبة في مقر السجن. عسكريون ينغلون ويستمعون إلى التلفزيونات التي كانت ممنوعة. علم أن شيئاً كبيراً قد حصل. وعندما علِم أنّ الحريري كان هو الهدف أيقن أنّ سيطرة النظام السوري على لبنان آيلة إلى السقوط. ردة فعله الأولى كانت أن السوريين و”حزب الله” أخطأوا ربما في اغتيال الحريري. بحكم اطلاعه من محاميه على عناوين الأحداث والتطورات السياسية كان يدرك أن حركة الاعتراض على الوصاية السورية لا بدّ أن تنجح. ولكنّ تقديراته كانت أن النظام السوري قد يعمد إلى اغتيال وليد جنبلاط لأنّه يملك قوة الفعل وقيادة الشارع. وهذا ما حصل بعد اغتيال الرئيس الحريري.
رفض الوصايتين السورية والإيرانية
ثمة صورة مشابهة اليوم لصورة وليد جنبلاط 2003. يومها لم يتوانَ عن انتقاد النظام السوري وضباط مخابراته وعلى رأسهم رستم غزالة رافضاً تلبية زيارة دمشق. ويومها لم يتوانَ أيضاً عن زيارة بيت سمير جعجع في يسوع الملك في كسروان للمطالبة بإطلاق سراحه. وكان حريصاً على دعوة السيدة ستريدا جعجع للمشاركة في مأتم الشيخ أبو حسن عارف حلاوي في الباروك بعد انكفاء سياسي استمرّ منذ أحداث 11 أيلول 2001. اليوم لم يتوانَ وليد جنبلاط عن انتقاد السيطرة الإيرانية على لبنان رافضاً استقبال أكثر من مسؤول إيراني بعد اغتيال السيد حسن نصرالله، بينما كان مستمرّاً في تثبيت العلاقة مع الرئيس نبيه بري بحيث كان حريصاً دائماً على التذكير بتحالفهما، الذي لم يخلُ من محطات قاسية ودامية كـ “حرب العلمين” في تشرين الثاني 1985، وحرب الشوارع في بيروت في شباط 1987 التي أدّت إلى عودة الجيش السوري إليها، بعدما كان خرج منها نتيجة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. ومواقف جنبلاط من التسلّط الإيراني على السيادة اللبنانية في هذا المجال لا يمكن إلا أن يكون قاسها بمقياس الرئيس بري، وقد يكون يقول في العلن ما لا يمكن بري أن يقوله.
بين جعجع وبري
بعد خروج الدكتور سمير جعجع من الاعتقال حصل أكثر من لقاء بينه وبين جنبلاط. بعضها كان علنياً وبعضها لم يخرج ما دار فيه إلى العلن. بين الرجلين علاقة صعبة ومعقدة لا تشبه العلاقة ما بين جعجع وبري وما بين بري وجنبلاط.
على رغم الخلاف في السياسة بين جعجع وبري إلّا أن هذا الخلاف لم يرتقِ إلى مستوى الخصومة. دائماً كانا متّهمين مثلاً من “التيار الوطني الحر” بأنّهما يقيمان تحالفاً من تحت الطاولة ضدّ الرئيس ميشال عون لتفشيل حكمه. حتى عندما حصل حادث الطيونة في 14 تشرين الأول 2021 اتهمهما “التيار” بأنّهما متفقان بهدف زيادة شعبية “القوات” على حساب العهد و”التيار”. وعلى رغم اتهام “القوات” للرئيس بري بتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً لعون، يستمر جعجع في وصفه بأنه “شيخ المهضومين”. هذه العلاقة بين جعجع وبري لا تخرج عن إطار العلاقة التي كانت بين “القوات” و”أمل” خلال الحرب. حتى أن الرئيس بري لم يقفل أبوابه أمام “القوات” بعد اعتقال الدكتور جعجع. ثمة قنوات تواصل ظلّت قائمة بين الطرفين حتى في أصعب الأوقات.
بَرَكة اتفاق وقف النار
على رغم تمسك الرئيس بري بترشيح رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية، بقي جنبلاط خارج هذا الخيار. بحثاً عن “رئيس يجمع ولا يفرّق ولا يشكّل تحدّياً لأيّ طرف”، كما يقول بري، هل يمكن أن يجمع جنبلاط بين بري وجعجع؟ وطالما أن بري بارك اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافق عليه “الحزب”، هل يبارك الاتفاق على رئيس ينفّذ هذا الاتفاق الذي ينص صراحة على استعادة السيادة اللبنانية ونزع سلاح “حزب الله” وتحرير قرار الدولة من سيطرته وتفكيك منشآته؟ رئيس يستعيد الدولة، التي تبقى ضمانة الجميع، ويرفض الوصاية الإيرانية.
الثلاثة يحتاجون إلى رابع. رئيس حكومة متحرّر أيضاً من وصاية “حزب الله”. من يمكن أن يكون؟