بقلم خالد صالح
لم يكن تاريخ 10 حزيران 2000 تاريخًا عاديًا، في ذلك اليوم رحل “حافظ الأسد”، وأرغم الشعب السوري أن يتقبّل على مضض وبالقوة أن يتمّ تعديل الدستور لاعتلاء بشار الأسد سدّة الرئاسة، لتبدّأ معها مرحلة جديدة من “حكم العائلة” الذي وضع أسسه “حافظ” كي تظل مقاليد الأمور في أيديهم “إلى الأبد”
ومنذ أن فُرض الأسد على الشعب، بدأ بتفصيل البلاد على مقاس حكمه، استهل مسيرته بخطواتٍ استبدادية، بدءًا من خرق الدستور لتأمين استمرارية سلطته، حيث عدَّل مواد الدستور لتتناسب مع سنِّه عند توليه مهمة الرئاسة، في سابقةٍ خطيرة، وأرسى نظامًا قوامه القمع والترهيب، واستغل موارد الدولة لخدمة مصالح عائلته والمقربين منه، لقد جعل من سوريا مسرحًا للفساد المنظَّم، حيث سيطرت أسرته على القطاعات الاقتصادية الحيوية، الأمر الذي أدّى إلى تهميش الشعب وإفقاره.
وسيظل تاريخ 8 كانون الأول 2024 محفورًا في وجدان الشعب السوري والوطن العربي والعالم، بأنه في هذا اليوم “سقط نظام الأسد” واستعادت سوريا بعد أكثر من نصف قرن هويتها كـ “دولة” بعد أن اختصرتها عائلة، يوم انتصار “الحرية” على الاستبداد، سقط النظام الذي جعل من سوريا أكبر سجن في العالم على وقع الاستبداد والقمع، يوم نهاية عقود من الظلم والغطرسة والمعاناة التي تحمّلها الشعب السوري، وبداية صفحة جديدة مشرقة في تاريح هذا البلد .
انتصرت “الثورة السورية” ودحرت “نظام قمعي استبدادي” لم يوفّر وسيلة لِكَمِّ الأفواه وكتم أصوات الحرية، وبعد ما يقارب 14 سنة من الصبر والتضحيات أثبت الشعب السوري أن الإرادة الحرة قادرة على اقتلاع الاستبداد من جذوره مهما بلغ مداه، وطوى هذا الشعب بفعل تصميمه وإيمانه صفحة مظلمة من تاريخ سوريا، ووضع البلاد أمام عهد جديد من الحرية والكرامة .
سوريا الأسيرة
منذ تاريخ ما يُعرف بـ “الحركة التصحيحية” في ١٦ تشرين الثاني ١٩٧٠، لم يعمد حافظ الأسد إلى بناء نظام دولة قائم على الدستور والقانون والكفاءة، بل بدأ بتأسيس ما بات يُعرف بـ “نظام الأسد”، نظام قائم على القبضة الأمنية، أجهزة استخبارات غبّ الطلب على أنواعها، وأجهزة استخبارات داخل الأجهزة نفسها، زرع الدسائس والمكائد بين السوريين حتى بات المرء يشكّ بنفسه، مارس سطوته وهيمنته بلغة القتل والاختطاف والاعتقال، كتم الأصوات والأقلام، وبثّ الرعب في مجتمعه، وكلّما زادت سطوته زادت أساليب دمويته وقمعه وديكتاتوريته حتى ولو اقتضى الأمر أن “يقصف” مدينة بكاملها بالطيران الحربي ..
“بطل التشرينين”، لم يعمل على بناء دولة بمعناها التقليدي، بل قام ببناء “أسرة فولاذية” تدور حولها كل مقدرات سوريا، ولأجل هذه الغاية بات في سوريا “سجون ومعتقلات” أكثر من الجامعات والمستشفيات، في كل محافظة سجن تقليدي، وسجون لايعرف بها إلا الراسخون في طأطأة الرؤوس لولي نعمتهم، من “صيدنايا” وليس انتهاء بـ “سجن تدمر”، لارادع ولا وازع، المهم أن يظلّ ممسكا بمقاليد السلطة ويورثها لأولاده من بعده، وعمّم عبارة “سوريا الأسد” لتحل مكان “الجمهورية العربية السورية”، وبعد ذلك عبارة “الأسد إلى الأبد” .
تحوّلت سوريا خلال نصف قرن إلى أكبر معتقل في العالم، الآلاف من سجناء الرأي الآخر والفكر المعارض أو حتى أفكار تطوير القوانين والأنظمة، وباتت إلى ما يشبه “المزرعة العائلية”، حيث تفشّى الفساد والقمع، لكن الشعب صمد متحديًا كل محاولات الإخضاع، برغم الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب السوري من دمائه وأحلامه، جاء النصر ليؤكد أن كفاح الشعوب من أجل الحرية لا يمكن أن يُهزم.
اليد المضرجة تدقّ
مع سقوط “نظام الأسد”، فُتحت أبواب السجون والمعتقلات التي كانت شاهدة على أفظع الانتهاكات،عاش آلاف المعتقلين سنوات من القهر والموت اليومي وقضوا سنوات طويلة في زنازين الظلم، ولم يفقدوا إيمانهم بأن اللحظة التاريخية آتية لامحال، لحظة طال انتظارها وبُذل في سبيلها الغالي والنفيس، خرجوا إلى النور حاملين معهم أحلامًا بوطن حر ودولة عادلة، تاركين وراءهم ذكريات قاسية، لكنهم متطلعين إلى مستقبل جديد.
الانجاز لم يكن سهل المنال، فقد جاء بعد أعوام طويلة من القتل والمجازر والقمع والدمار، دفع السوريون أثمانًا باهظة ليس فقط بدماء الشهداء، بل أيضًا بالتضحيات التي قدمتها عائلات بأكملها، والدمار الذي طال المدن والقرى، هذا الانتصار يمثل شهادة على تضحيات الشعب السوري وشجاعته الفائقة في مواجهة الطغيان.
لم يكتفِ “نظام الأسد” بضرب البلاد بيد من حديد بلا رحمة، بل أطلق يد الفساد والمحسوبيات لتدمير ما تبقَّى من المؤسسات، أُفقرت البلاد، وتشرَّد الملايين، وقُمع الشعب بكل الوسائل الوحشية الممكنة، “العائلة الحاكمة” ومن يرتبط بها نسبًا ومنافعًا كانت رمزًا لتجسيد روح البعث التسلطي، حزبٌ استولى على السلطة تحت شعارات الوحدة والحرية، ليقمع كل صوتٍ معارضٍ ويحرم السوريين من أبسط حقوقهم، وشكل تحت قيادة الأسد “أبًا وابنًا”، نموذجًا صارخًا للطغيان، حيث تمّ تجريد المجتمع من إمكاناته الطبيعية للتقدُّم، التي كان من الممكن أن تحقق سوريا الكثير من خلالها، لولا تسلُّط هذا الحزب وتحويله البلاد إلى سجنٍ كبيرٍ لشعبها.
المستقبل على المحك
مع سقوط الأسد، تواجه سوريا سؤالًا وجوديًا: كيف يمكنها أن تُعيد بناء نفسها بعد كل هذا الخراب؟، المصير الذي ينتظره النظام، بعد سنواتٍ من الفساد والدمار، يرتبط بقدرة السوريين على تجاوز إرث البعث وسطوة الاستبداد فيه، لن تكون هذه المهمة سهلة، في ظل وجود قوى داخلية وخارجية، ومع سقوط النظام، يتطلع الشعب السوري إلى بناء دولة ديمقراطية حرة تقوم على مبادئ العدل والمساواة، سوريا التي تعبّر عن كل أبنائها، والتي تمثل نموذجًا للتعايش والتعددية، الحلم الذي بات أقرب إلى الواقع.
ونحن في لبنان نستعيد ما قاله الرئيس الشهيد “رفيق الحريري” الذي كان يقرأ في السياسة الأبعاد الحقيقية للعلاقة بين لبنان وسوريا عندما قال عبارته الشهيرة “لبنان لا يحكم من سوريا، كما أنه لا يحكم ضد سوريا”، فهو يعرف بحدسه الكبير أن ترتيب هذه العلاقة وفقًا لما يراه يعني الاستقرار المنشود والمطلوب للبلدين معًا ..