كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
في حضرة ابن شكا سهيل الحموي، الذي اعتقل شاباً في الخامسة والعشرين وأطلق هرماً في الستين، نفهم أكثر معنى الحرية. ببساطة، وبلا فذلكات، وبعيداً من «التفلسف» يجول بين أهله وناسه في بيته المتواضع و»بيت الضيق يسع ألف صديق». بعد ظهر البارحة وصل سهيل- أبو جورج- إلى شكا بعد 32 عاماً وخمسة أيام في الاعتفال السوري الأسود،( وتحديداً بعد 8100 يوم في مقياس الأيام). هناك، عند المستديرة، كانوا كثراً في الاستقبال. خرج من سيارة أقلته بلحية بيضاء مثل الثلج، وهو من خطف شاباً عريساً وأباً لطفلٍ لا يتجاوز العشرة أشهر. يومها، قبل 8100 يوم قبّل سهيل ولده جورج كثيراً. لاعبه. شدّ عليه بين أضلعه ورفعه عالياً عالياً وتمتم له بكلمات لم يفهمها صغيره: فلتكن حياتك نوراً يا بني. مساء، اعتقل، من قلب البيت. دعاه أحدهم لينزل إلى السيارة و… أخذه. البارحة، كل من تقاطروا للسلام والتحية كرروا غير مصدقين «الحمدلله ع سلامتك يا أبو جورج». وهو استمرّ يبتسم لهم ويضمهم ويتمنى لهم «طول العمر». كم مرّت ثوان من ذاك العصر. حياته تُحسب بالثواني. صحافة تصل وصحافة تغادر وهو يُكرر حكايته بلا تذمر «متل إبريق الزيت». تعب أهل البيت أما هو فلا. تناول لقمة من يد عروسه جوزفين التي تركها صبيّة. تغيّرت كثيراً. زاد وزنها. لكنها عادت البارحة عروساً.
زوجته تُكرر: «إتركوه يرتاح». وهو يبتسم لها مردداً: «اتركيهم ليسألوا». تناول لقمة «ع السريع» وعاد إلى صالونه المتواضع الذي استمرّ كما تركه. صورة جورج برداء التخرج في صدر الدار وصورتان لطفلين كم تمنى أن يلمسهما. كان حلماً بعيد المنال. كم فكّر به؟
سمعنا طلقات نيران كثيرة في الجوار. سمعنا بالحرب والفوضى لكنني تعاملت مع الأحداث كما عودوني أن أكون بعيداً من التفكير بالحرية. كنت مسؤولاً عن مكتبة. كان معي لبنانيان في سجن اللاذقية لم أعد التقيهما في الآونة الأخيرة. قبلها في سجن عدرا كان عدد اللبنانيين أكبر. أول ستة عشر عاماً في الاعتقال لم تسمع عائلته عنه شيئاً. هل نفهم من ذلك أنها كانت الفترة الأصعب؟ يجيب «لا، كانت الأسهل. كنت قد فقدتُ الأمل نهائياً بلقاء العائلة مجدداً لكن بعدها، بعد ان رأيتهم، ما عدت أنام. أصبحت أنام وأقوم وأنا أفكر بتجدد اللقاء. هو أمل يبدو كاذباً في مثل حالتي. قد أراهم وقد لا أراهم. يا إلهي كم عشت لحظات خوف وقلق. عدتُ أتذكر كل شيء. عادت الوحدة – بعد كل لقاء جمعني بأسرتي – أقسى. لم أفكر بالحرية، بصدق، لكن كنت أتمنى وأصلي لذلك. صليت كثيراً.
تهمتك؟ قوات لبنانية وأنا لم أكن منتمياً إلى القوات ولا إلى غيرها، لكن بحكم وجودي في شكا كان الجميع قريبين من القوات. من أخذك؟ وزير الداخلية آنذاك. من تقصد؟ أعتقد كان من آل الشهال. أرسل أشخاصاً لاعتقالي وتسليمي. لماذا؟ بصدق لم أعرف.
ماذا تغيّر في حياتك؟ لا لا أعرف… صدقيني لا أعرف. بالحرية نكون أنفسنا ومن دونها لا نكون شيئاً.
نبحث في الوجوه. زوجته جوزفين تذهب وتجيء. كنته إيميلي تقدم الضيافة. ابنه جورج في السعودية وحفيداه كريس وتالا يرددان: «صار عنا جدو». ينظر إليهما ويقول: «تركت طفلاً عمره عشرة أشهر وعدت وهو أب لطفلين في السادسة وفي السابعة. كان من حقي أن أعيش مع عائلتي لكنهم لم يسمحوا لي بذلك. كثر دفعوا ظلماً فاتورة سورية قاسية. قضينا عمرنا في غرف سوداء ولم يعرف أحدنا تهمته. ويوم كثر الرصاص من حول سجن اللاذقية خرجت من الشباك. قلت يا حياة يا موت وخرجت. عشت خمس سنوات لا أعرف الليل من النهار. أحياناً أتناول طعاماً لا أعرف ما هو. عشت مرحلة صعبة للغاية. يغمض عينيه ويشد كي لا تنهمر دمعتان. تتدخل جوزفين قائلة: إتركوه يرتاح.
النائب غياث يزبك حضر وربت على كتفيه مرات. رئيس البلدية وصل. أقارب وأصدقاء وجيران. يتمعّن في وجوههم كي لا يقول لهم: ما بعرفكم. ينظر إليهم مردداً: نعم، في أمل. نتركه يرتاح وهو من خسر بأمرٍ سوري أسود أكثر من نصف حياته.