كتب شارل جبور في “نداء الوطن”:
يصرّ “حزب اللّه” على منطقه وأدبياته وكأنه لم يوقِّع على اتفاق وقف إطلاق النار، وكأن سقوط النظام السوري مجرّد تفصيل عابر، وأكّد الشيخ نعيم قاسم في إطلالته الأخيرة مساء أول من أمس أن “المقاومة أثبتت جدواها وهي مستمرّة ولكل مرحلة أساليبها والمهم أن تبقى، وأن برنامج “حزب اللّه” في المرحلة المقبلة هو تنفيذ الاتفاق في جنوب نهر الليطاني وإعادة الإعمار وانتخاب الرئيس والحوار”.
يرفض الشيخ نعيم الاعتراف بأن موافقته على اتفاق وقف إطلاق النار تعني موافقته على نزع سلاحه في لبنان كله وليس جنوب الليطاني فقط، كما يرفض الاعتراف بأن نص الاتفاق يتحدّث بوضوح عن سلاح واحد في لبنان كله، ويرفض إجراء مراجعة لما يسمّى “مقاومة” لم تُثبت جدواها إطلاقاً خلافاً لادّعاءات أصحابها بالقوة والقدرة، إنما ظهرت على حقيقتها عاجزة وضعيفة وأداة تدميرية للبنان وشعبه.
لسنا في معرض السجال مع منطق سُحِق في الحرب وسقط في الميدان، ويتنافس مع نظام الأسد على المرتبة الأولى بالإساءة إلى لبنان واللبنانيين، إنما هدف النقاش التأكيد على فكرة أساسية ما زالت تتردّد من قبل أكثر من زعيم وقيادي ومسؤول: لا عودة إلى ما قبل 7 و 8 تشرين الأول 2023، ولا عودة إلى مرحلة ما قبل اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقّعت عليه الحكومة في 27 تشرين الثاني الماضي.
وعدم العودة إلى سياسات ما قبل هذه المرحلة لا يكون من خلال انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة إنتاج للسلطة قبل أن يتعهّد “حزب اللّه” التخلي عن سلاحه، والتخلي عن دوره العسكري، وأي انتخاب للرئيس وتكليف رئيس حكومة وتشكيل حكومة قبل أن يتعهّد “الحزب” بذلك يعني العودة عملياً إلى المرحلة السياسية التي سبقت إعلان السيد حسن نصرالله حرب الإسناد لحركة “حماس”.
ومن الخطأ التعامل مع فريق وفقاً لنصوص الدستور، وهذا الفريق لا يعترف أساساً بالدستور ولا بالقرارات الدولية، ويفسِّر “اتفاق الطائف” والقرارات الدولية على طريقته، ومن الخطأ أيضاً انتخاب رئيس للجمهورية وفقاً لتوقيت فريق الممانعة، علماً أن توقيت الانتخاب هو دستوري، والمعطِّل انتهك الدستور لأكثر من سنتين، فيما هناك فرصة تاريخية اليوم لا يجب تفويتها بعد تدمير قوة الحزب العسكرية، ووجود اتفاق يُنهي دوره العسكري، وآلية تُحصي أنفاسه، وسقوط جسره الحيوي في دمشق، واهتمام دولي استثنائي، وبالتالي لا يجب تفويت هذه الفرصة من أجل قيام الدولة الفعلية.
وقد يقول قائل إن كلام الشيخ نعيم لم يعد يُصرف على أرض الواقع بعدما سقط الميدان السوري، وقُطِع جسر التواصل مع حرس الثورة، وفي ظل آلية تنفيذ لاتفاق وقف إطلاق النار تواصل استهداف مواقع “حزب اللّه” وعناصره، وكون الحرب مستمرة حتى إسقاط أذرع إيران كلّها وصولاً إلى تطويقها وتخييرها بين الاستسلام والسقوط، وعلى الرغم من صحة كلّ ذلك إلّا أن هذا شيء، وأن يتعهّد “حزب اللّه” التخلي عن سلاحه قبل انتخاب رئيس للجمهورية، وفقاً لـ”اتفاق الطائف” والقرارات الدولية وآخرها اتفاق وقف إطلاق النار، هو شيء مختلف تماماً.
فتسليم الميليشيات سلاحها أقرّ في “اتفاق الطائف”، ولو لم توافق الميليشيات على تسليم سلاحها لما أقرّ الاتفاق، والسلطة التي انبثقت عن الطائف جاءت لتطبِّق ما كان اتفق عليه، ولذلك، السلطة التي ستنبثق اليوم يجب أن تطبِّق بالقوة اتفاق وقف إطلاق النار وما سبقه من قرارات دولية وصولاً إلى “اتفاق الطائف”، فهل من يترشّح على رئاسة الجمهورية في هذا الوارد؟
ما يريده “حزب اللّه” معروف وهو عودة القديم إلى قدمه، أي الممارسة نفسها منذ 34 عاماً، وبشكل أدقّ منذ العام 2005 عندما ورث عن النظام السوري إمساكه بمفاصل الدولة، فهل هذا ما تريده المعارضة السيادية بعودة التعايش المدمّر للدولة ولحياة اللبنانيين بين مشروع حرب وفوضى، ومشروع دولة ودستور؟
فالهدف من السلطة الجديدة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، أي أن يكون سلاح الشرعية هو السلاح الوحيد في لبنان، فهل ستتمكّن السلطة الجديدة من تنفيذ هذه المهمة، أم سيتمّ شلّها وتعطيلها وإدخالها في انقسام ما بعده انقسام؟
يجب الاتفاق على مسلمة أساسية وهي رفض العودة إلى المرحلة التي سبقت الحرب الأخيرة، ورفض أن تبقى النصوص من دون تطبيق، وهذا الأمر لا يتحقّق بانتخاب رئيس للجمهورية وإعادة إنتاج سلطة، إنما طريقه الوحيدة هي أن يتعهّد “حزب اللّه” التخلي عن سلاحه ودوره العسكري، أي الإقلاع عن أدبياته التي دمّرت لبنان وأعاد الشيخ نعيم تذكير اللبنانيين بها، وما لم يحصل هذا التعهّد على غرار تعهُّد الميليشيات بتسليم سلاحها قبل التوقيع على “وثيقة الوفاق الوطني”، فمن الخطيئة انتخاب رئيس للجمهورية.
فبعد الكوارث كلّها التي أصابت لبنان واللبنانيين الأولوية يجب أن تكون كالآتي: أن يتعهّد أولاً “حزب اللّه” بالتخلي عن سلاحه ودوره المسلّح والالتزام بالدستور والقرارات الدولية، وبعد أن يتعهّد يصار ثانياً إلى انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس حكومة وتشكيل حكومة تعمل على تنفيذ الدستور والقرارات الدولية.
فالسلاح أولاً والرئاسة ثانياً، وكلّ ما هو خلاف ذلك خطيئة ما بعدها خطيئة كونه يُبقي لبنان ساحة لمشروع انتهى في المنطقة، فلا سلطة ولا إعادة إعمار ولا حوار قبل تخلي “حزب الله” عن سلاحه وعن دوره العسكري.