كتب منير الربيع في “المدن”:
هي لحظة مفصلية بتاريخ لبنان المعاصر. يمكن فيها أن يُطلق عصر سياسي جديد، بعناصر جديدة. إنها المرّة الأولى التي يُنتخب فيها رئيس للجمهورية، ويُكلف رئيس للحكومة من خارج “الطبقة السياسية” بالمعنى الفعلي، وحتى بمعايير الانتخاب وآليته. إذ أن الرجلين لم يكونا مدرجين على لائحة الترشيح الفعلية لأي كتلة أو طرف أو حزب، على الرغم من عودة القوى المختلفة إلى التقاطع عليهما. في عملية الانتخاب والتكليف، يمكن الاعتبار أن نموذجاً سياسياً جديداً بالإمكان تكريسه، وهو الانتقال إلى وجوه سياسية جديدة سواء كانت تتقاطع مع الطبقة السياسية أو تنتمي إليها أو مستقلة عنها، علماً أن الأساس الذي يبقى هو عنصر الجمع والكفاءة وليس الولاء أو المحسوبية.
جيل جديد
لا يمكن لأي طرف داخلي أن يتوجه إلى أحد الرئيسين مدعياً أنه هو الذي أسهم بفوزهما. ذلك سيمنحهما مرونة أكبر في التعاطي السياسي وفي اتخاذ قرارات كثيرة ومقاربات عديدة، بدءاً من تشكيل فريق عملهما إلى آلية تشكيل الحكومة والوجوه التي ستضمّها، ولاحقاً في مختلف التعيينات التي سيتم إقرارها. في تركيز الرجلين على جانب الشباب وإيلاء الاهتمام المباشر بهم، تكمن إشارة أساسية حول الانتقال إلى جيل جديد من الطبقة السياسية، وهو ما يحصل رويداً رويداً، ومن خلال دورات الانتخاب البرلمانية. والتي كان الخرق الأول فيها مع نواب التغيير في العام 2022، وقبلها كانت التجربة في العام 2018 مع بولا يعقوبيان.
جاءت هذه الخروقات “المدنية” في صفوف الطبقة السياسية، بفعل عمل تراكمي وتحركات شعبية بدأت في العام 2011 بالتزامن مع الربيع العربي، فخرجت في بيروت تظاهرات تطالب بالدولة المدنية وإسقاط النظام الطائفي. بعدها بأربع سنوات اندلعت انتفاضة “النفايات” وتراكم الحراك وتوسع تأسيساً لمسار سياسي اعتراضي جديد، فيما كانت مواجهته من قبل الطبقة السياسية بإعادة انتاج تسوية كانت محاولاتها الأولى هادفة إلى “تجديد حكم البكوات” من خلال تبني تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي لترشيح سليمان فرنجية، الذي توحد الحزبان المسيحيان الأكبر في مواجهته، فأنتجت تسوية انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. سياسياً، جاءت هذه التسوية لصالح حزب الله بشكل كامل، فأصبح الحزب هو الذي يختار رئيس الجمهورية، ومجلس النواب والحكومة. وعندها برزت معارضة خارجية شديدة للنفوذ الذي بلغه حزب الله.
مرجعية 17 تشرين
بعد انتفاضة النفايات بأربع سنوات، انفجرت ثورة 17 تشرين والتي يمكن وصفها بأنها البذرة الأساسية التي انطلق منها ترشيح جوزيف عون لرئاسة الجمهورية، ونواف سلام لرئاسة الحكومة. في ظلال الثورة والمطالب التي رفعها المتظاهرون، كان الكلام السياسي الجدّي يشير إلى الانتقال نحو معادلات وتوازنات جديدة. أما ديبلوماسياً، فكان الكلام الذي يرد على ألسنة المسؤولين الدوليين بأنه لا يمكن ترك حزب الله حاكماً ومستحكماً بلبنان ومؤثراً في دول المنطقة.
وكان الكلام الأوضح عندما برزت دعوات لانتخابات نيابية مبكرة، لأنه لا يمكن القبول الداخلي أو الخارجي في أن يحدد حزب الله مسار الرئاسات الثلاث ومصيرها. لم تفلح الضغوط ولم تنجح المبادرات الخارجية، فيما عملت الطبقة السياسية على تشظية الثورة وإخمادها، ونجحت في كسب المزيد من الوقت المستقطع، من خلال تسويات آنية بدأت بحكومة حسان دياب وصولاً إلى حكومة ميقاتي. لكن الأثر ظهر في الانتخابات النيابية عام 2022، والذي لم يُترجم سياسياً، فعاد ميقاتي إلى الحكومة.
لحظة مفصلية
وقعت الحرب الإسرائيلية على المنطقة، وتغيرت المعادلات على مستوى دول عدة. تأثر لبنان بما جرى، وتماشى مع التغير الحاصل بالمعاني الاستراتيجية والسياسية، وعلى مستوى الطبقة السياسية أيضاً، من خلال رئيسي الجمهورية والحكومة وما سيأتي معهما، تحضيراً للانتخابات النيابية المقبلة، والتي أيضاً سيستمر العمل التراكمي فيها. وهو ما ستظهره النتائج في حينها.
عملياً، وصل لبنان إلى لحظة مفصلية من تاريخه. وحتماً، بعض القوى السياسية ستتشدد وتستشرس، لكن الظرف يفرض كيفية المراكمة على قواسم مشتركة. وهي مرحلة تتطلب تنازلات من الجميع، على قاعدة مدّ الأيدي لا قطعها. مع قناعة الجميع بأنه لا أحد بإمكانه العمل وفق ما كانت عليه الأمور قائمة سابقاً، ولا بتجاوز ما جرى منذ الانهيار الكبير في العام 2019. لذا، يقف رئيسا الجمهورية والحكومة أمام تحدّ أساسي، وهو إظهار حجم التلاقي الداخلي، بما لا يدع مجالاً للشك لدى أي طرف بأنه مستهدف. وذلك من خلال تشكيل حكومة جامعة من أصحاب الكفاءات، والدفع باتجاه مرحلة جديدة من الحوار الداخلي الجدّي، في سبيل معالجة الأزمات العالقة من السلاح والحرب وتداعياتها، وتحقيق ما ورد في خطاب القسم، وفي خطاب التكليف الذي ألقاه رئيس الحكومة المكلف.
في لبنان، الكثير من التجارب التي “تُعلِّم”، الكثير من الدروس، وهي أن الطوائف أو إحداها عندما تستشعر بعضاً من الغبن تتصرف بطريقة غير عقلانية، فتنجرّ إلى خيارات غير واقعية أو تستدعي عوامل قوة خارجية. كل الطوائف في لبنان تعايشت مع مثل هذه الظروف. أما حديث الرئيسين عن دولة المواطنة والدولة المدنية والتساوي بين المكونات، فيمكنه أن يشكّل فرصة لتجاوز أي محاولة للإقصاء أو الكسر أو الاستضعاف.
من هنا لا بد للأبواب أن تبقى مفتوحة على تشكيل حكومة جامعة وبروحية جديدة تتلاقى مع تطلعات المرحلة وظروفها وشروطها. وإن كان الثنائي الشيعي قد اعتبر أن ثمة يداً ممدودة قد قُطعت، فإن ردّ رئيس الحكومة المكلف كان واضحاً في مدّ يده وأنها لا تُقطع، ومن هنا يبدأ الكلام.