بقلم خالد صالح
ورد في الأدب الفرنسي السّاخر أنّ المواطن البلجيكي “فرانك ديستان” استمرّ ولمدّة عشرين سنة على عبور الحدود نحو ألمانيا وبشكلٍ يوميّ على درّاجته الهوائية، حاملًا على ظهره حقيبة مملوءَة بـ “التراب”، وكان رجال الحدود الألمان على يقين أنه يقوم بعملية “تهريب” لشيءٍ ما، لكنّهم وفي كلّ مرة وبعد تفتيشه تفتيشًا دقيقًا لا يجدون معه غير “التراب” ..
لم يُكشف السرّ الحقيقي إلّا بعد وفاة “ديستان” حين وُجِدت في مذكّراته الجملة التالية: “حتى زوجتي لم تعلم أنني بنيت ثروتي الكبيرة من خلال تهريب الدراجات الهوائية إلى ألمانيا”، وهنا يكمن أسلوب “الذكاء”، فقد استطاع أن يُلهي رجال الحدود بالحقيبة المملوءة بالتراب ليتحقق عنصر “الذكاء” في مقولته وهي “ذر الرّماد في العيون” وتحويل أنظار الناس عن الهدف الحقيقي .
هذا العمل الذي قام به “ديستان” يُسمّى “استراتيجية الإلهاء” وهي واحدة من عشر استراتيجيات للتحكّم بالشعوب، والتي تقول “حافظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيدًا عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية وأشغلوا رأسه بمسائل تافهة لا أهمية لها، أبقوا الجمهور مشغولًا مشغولًا مشغولًا من دون أن يكون لديه أيّ وقتٍ للتفكير، فقط عليه العودة إلى “المزرعة” مع غيره من الحيوانات الأخرى.
“حزب الله” لم يقرأ بعد !!
المراقب لتصرفات “حزب الله” الأخيرة، يشعرُ أن هذا ما يحصل بالفعل في مسألة رسو التكليف عند “نواف سلام”، محاولة إلهاء بعناوين مختلفة كالمؤامرة والانقلاب على التفاهمات ومحاولة الإقصاء والإلغاء والتهميش، وكلّها تهدف إلى أمر واحد، حرف أنظار بيئته عن “الكارثة” التي بلغتها جرّاء الحرب وحجم الخسائر الفادحة و “المهولة” التي بدأت بالظهور شيئًا فشيئًا، والتصويب على بقية الأفرقاء اللبنانيين و “شحن النفوس” بهذه العناوين .
رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة المكلّف نوّاف سلام كانا واضحين في الرّد على هذه العناوين، لا نيّة لكسر أيّ مكوّن لبناني لأن في ذلك انكسارٌ لنا جميعنا، ولا نيّة لاستبعاد أحد من القيام بدوره الفعلي في مسيرة الشراكة الوطنية، ورغم ذلك لم تقرأ قيادة “حزب الله” بعمق جملة المتغيّرات التي طرأت على الساحة الإقليمية من سقوط “نظام الأسد” إلى نهاية “حرب غزّة” وأن “وقف العمليات العسكرية” سيمتدّ لعقدٍ أو عقدين على الأقل، وأن العمل اليوم هو للسياسة، وأن “فائض القوة” لم يعد يؤتِ أكله .
من هنا فإن محاولة الحزب تعميم بعض المصطلحات غير الموجودة أصلًا يظهر كأنه “حرف نظر” عن الحقيقة، أو بالأحرى “محاولة إلهاء” لتثبيت عزائم البيئة بعيدًا عمّا ينتظرها بعدما تتكّشف كل نتائج الحرب، سياسيًا بأن التعويل على “محور الممانعة” بات في خبر كان، وأن “السلاح” انتهت مفاعيله وأدواره، وأن “فائض القوة” الحقيقي اليوم هو للبرامج التنموية والنهضوية، والاعتراف بأن “الكارثة” التي وقعت لا يُمكن تجاهلها وإلا فإنهم يكونون مثل مّن “يحجب الشمس بالغربال” ..
الوقت للبنان الدولة
بالتأكيد إنّ “حزب الله” مكوّن رئيسي في البلد، وله تمثيل واسع، برلمانيًا وشعبيًا، وعليه مسؤوليات جِسام أسوة ببقية الأفرقاء، ويجب أن تُناط به أدوار وطنية كبرى، لكن عليه أولًا تقديم منطق “الدولة” على أيّ منطقٍ آخر، فالدولة بمؤسساتها وإداراتها هي الكفيلة بمسح آثار العدوان والحرب الإسرائيلية الهمجية، وهي المسؤولة عن إعادة الاعمار في الضاحية والجنوب والبقاع، وعلى “حزب الله” أن يلعبَ دوره “اللبناني” و “اللبناني فقط” بعيدًا عن أجندات “مكتوبة في الخارج” ولبنان مسرحًا لتنفيذها .
وبالتأكيد أنّ مرحلة جديدة قد بدأت ولا وجود فيها لمعادلات “غبّ الطلب”، المعادلة الوحيدة اليوم هي لـ “لبنان الدولة”، فقد دفعنا كثيرًا “الفاتورة” وآن الآوان للشروع في تنظيم حياتنا، لأنه يليقُ بنا حياة كريمة وهانئة، ويليقُ بأجيالنا “الأحلام الكبيرة” علمًا وعملًا، ويليقُ بنا استعادة “هويتنا” وثقة المجتمعين العربي والدولي بها، ويليقُ بنا أن نعود “همزة الوصل” بين الشرق والغرب، يليقُ بنا أن نحيا في كنف “دولة” سيدة وحرّة ومستقلة .
لذلك فإن على “حزب الله” اليوم أن ينأى بنفسه وبجمهوره العريض عن لعب دور “المظلومية”، وأن يتطلع كي يودي رسالته “اللبنانية” التي تؤسّس لقيام الدولة، على مبدأي المساواة والإرتكاز للقوانين، وأن يشرع في جهده لتحقيق الإنماء المتوازن خصوصًا في “معاقله” لردم الهوّة القائمة بين المناطق، وأن يخرج نهائيًا من دائرة “الإلهاء” نحو المكاشفة الحقيقية والمراجعة الدقيقة لسياساته المتبعة منذ العام 2000 وحتى اليوم .
لبنان الدولة، التي أرادها “الطائف” على قاعدة الشراكة الفعلية تحت عناوين الخروج من الحرب الأهلية وفق قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”، الفرصة الكبرى التي علينا استغلالها، وعلى “حزب الله” أن يستثمر “الفرصة” المتاحة لـ “لبنان” لبذل جهوده في بنائه، لأن الدولة تُشكّل “الضمانة” له ولبيئته والتي دفعت أيضًا الكثير من الأثمان أسوة ببقية اللبنانيين، وعليه واجب الانتماء قولًا وفعلًا ورؤيا، ولتكن السياسة هي الميدان الذي نجسّد فيه تطلعاتنا بأن يكون لنا وطن آمن ومستقر ..