بقلم خالد صالح

يتربّعُ الرئيس سعد الحريري بعد ثلاث سنوات من تعليق “العمل السياسي التقليدي” على قمّة مشرفة على الأحداث يراقبُ بـ “عين الصقر” مسارَ النهر الذي حملَ إلى تحت أقدامه جثّة “السياسة الرعناء” التي لايزال بعض “المهووسين” يُصرّون على ممارستها، يضحكُ في سرّه وعلانيته، ألم أقل لكم أنكم لن تستطيعوا “صبرًا” ولن تفهموا أن ما أقدمتُ عليه منذ ثلاث سنوات لم يكن “فلتة شوط”، بل هي قراءَة “عميقة” و “معمّقة” في لعبة الأمم ؟.
يجلسُ الرئيس سعد الحريري على “كرسيّه” بعد أن أرغمته “السياسة العمياء” التي قُوبلَ بها على إهمال صحته وأسرته، حتّى نال الوهن من قلبِه فتراكمت في شرايينه هموم “البلد”، فأجبرته على التخلّي عن “سيجاره”، وهو يتأمّل أفعال أولئك الذين اعتبروا أن “تعليق العمل السياسي” هو هروبٌ أو اعتزالٌ أو “نهاية” له وللأمانة التي يحملها بين يديه كـ “كتلة من لهب”، يتأمّلهم وقد غاصوا في وحولِ فشلِهم وانعدام رؤيتهم، وسقوطِهم في قعر “عنادِهم” السحيق .
يجلسُ سعد رفيق الحريري – كما يُحب أن ينادى – خلفَ مكتبه ينظرُ إلى خارطة طريقه التي اختار السيرَ بها منذ أن سقط “الوطن” في “حفرة” قطرها عشرة أمتار تسبّبت بها شاحنة مفخّخة بـ “طنين” من المتفجرات، كانت طريقًا معبّدةً بالتحدّيات والعقبات والعثرات، بالنجاحات والإخفاقات، بالمواجهات والتسويات، بالتحالفات والخصومات، مطمئنَ القلب ومرتاحَ الضمير، أن تكريس السّلم الأهلي وإرساء نهج الاعتدال في وقت كان منسوب الطائفية والمذهبية يتأجّج في لبنان والمنطقة المحيطة به، بمثابةِ “الإطفائي” الذي وأد الفتن وصَانَ “لبنان” في لحظات مفصلية، كادت ألا تبقي ولا تذر.
يقفُ سعد رفيق الحريري على شرفةِ منزله، يتركُ نظره يسافرُ بعيدًا عن الهرطقات التي مارسها “الحلفاء” بحقّه، ويرثي حالهم الذي بلغ حدًا مخيفًا من الاهتراء، تهاوت شعاراتهم وسقطت إدعاءَاتهم الفارغة، وطمسوا عقول جمهورهم بوعودٍ لم يتحقق منها شيء، يشعرُ بالحسرة على إهدار الفرص تواليًا نحو بناءِ الدولة، نتيجة التعنّت المقيت الذي طبع تصرفاتهم بحق “لبنان أولًا”، فتحوّلوا من قادة سياسيين ينبغي أن يكونَ الشأن العام شغلهم الشاغل إلى “سماسرة”، واستعادوا هيئة “الوحوش” التي جعلتها الحرب الأهلية “مخضرمة” في فنون اللف والدوران .
يصمتُ سعد رفيق الحريري ليلعبَ دور “المستمع” حينًا و “المتفرّج” حينًا آخر، يستعيدُ مقولة والده، “لا تصدّق كل ما تسمعه أذناك، وصدّق نصف ما تراه عيناك، وأترك النصف الثاني للعقل”، لكن أيّ عقل يمكنه أن يستوعبَ هذه الكمية من الحقد على شخصه وعلى دوره وموقعه، وعلى أهله وناسه وجمهوره؟، وفوق كل هذا أيّ عقل يمكنه استيعاب كمية “الأنانية” التي واجهها مِمَن اعتقد أنه “الشريك الوطني” الذي يستطيعُ أن يشبكَ يده بيده لخلاص لبنان .
يقرأ سعد رفيق الحريري في كتاب التبدّلات الكبيرة والرهيبة والخطيرة التي طرأت على المنطقة، ويصرخ بأعلى صوته: “ألم أقل لكم أنه لا مجال لأيّ فرصة إيجابية للبنان في ظلّ النفوذ الايراني والتخبّط الدولي والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة”، لكنكم رفضتم الإنصات واعتبرتم أنها “حجّة” واهية لقراري، وأن الانتخابات النيابية هي الحل وستحلّ مشاكل البلد، فتركت لكم الساحة تسرحون وتمرحون و .. تكذبون، لكنكم راوحتم مكانكم بصورة ممجوجة وسمجة في آن، من دون إحداث أي تغيير ولو قيد أنملة .
يستندُ سعد رفيق الحريري على “حكمة التعليق”، لأنه أبى على نفسه الانزلاق نحو الهوّة السحيقة لجهنم، ورفض أن يكون شاهدَ زور أو أن ينغمس في اللغو فأعرض عن الرّد على الجاهلين، ولم يلعب لعبة “شدّ الحبال” في حلبةِ العراك الطائفي والمذهبي و”تناتش المصالح” فوقَ حرمة الدستور والقانون، متمسكًا بالأمانة وهي حماية لبنان لا جرّه إلى اقتتال أهلي جديد، ويرفض أن يجعلَ من الوطن بما فيه وقودًا في حريق المنطقة الملتهب، مؤمنًا أنه لو كان “الرفيق الشهيد” بيننا لفعل ما ينبغي لأجل هذا الهدف السامي، وأنا سأفعل ما يجعله مطمئنًا في عليائه .
وجد سعد رفيق الحريري نفسه أمام سيل من الاتهامات والإرهاصات، تسامى برفعة أخلاقه ونسبه عنها، واجهَ حربَهم عليه لأنه رفضَ أن يكونَ مثلهم ويتصرّفَ على شاكلتهم، وواجَهَ حربًا أخرى وأكثر شراسة لأنهم لم يستطيعوا أن يكونوا مثله أو أن يتصرفوا على شاكلته، كانت نواياهم واضحة له بأنهم يريدون اقتلاعه من المشهد اللبناني، فإتكأ على أهله وناسه الذين ما تركوه يومًا فتبادل وإياهم “الوفاء بالوفاء” وأدركَ أنه غرس فيهم حب الوطن والتفاني لأجله، فكانوا على قدر آماله .
استوعبَ سعد رفيق الحريري أن شيئين يُحددان هوية الإنسان، “الصبر” عندما لا تملكُ شيئًا، و “الأخلاق” الرفيعة عندما تملكُ كلّ شيء، وأنك تكون إنسانًا رائعًا عندما تتجاهل الإساءة إليك، وكريمًا حين تُخفف من أحزان الغير، ولطيفًا حين تهتم بمن هم حولك، وجميلًا حين تبتسم مهما كانت الظروف، وأن أثرَك يبقى واضحًا في عمق التفاصيل لأنها محفورة بما قمت به انطلاقًا من مصداقيتك وترفعك عن الدنايا والصغائر، عفيف اللسان وواسع الصدر، ويكفيه شرفًا أنه لم يُخطئ بحقّ أحد رغم الطعنات التي تلقاها مِمَن اعتقد أن ظهره بمأمن لهم، في الدائرتين الصغرى والكبرى .
ثلاث سنوات مرّت على “قراره الذهبي” و “المفصلي” و “التاريخي” في ذلك اليوم الشتائي البارد من كانون الثاني، لم تبقَ ورقة صفراء عالقة على أغصان “شجرة العزة والكرامة”، تساقطت جميعها وانكشفت تلك الوجوه التي كانت تعطيه من طرف اللسان حلاوة ممزوجة بـ “سم المصالح”، واستعاد “المستقبل” نقاءَ أزرقه وسمو رسالته ورفعة مقامه، وخلت ساحته من الوصوليين والمتملقين والسّاعين إلى المقامات الرفيعة، الذين ظهر زيف ما يملكون، عاد “سعد” إلى “مربّعه” الأول نقيًا ومتفرّدًا يعزفُ على وتر وطنيته الحقّة والحقيقية، أجرى “مراجعته” لذاته وأدائه وتياره بمنأى عن “سياسة تقليدية” عقيمة، عاد إلى حيث بدأ “رفيقه” الشهيد ..

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة: