“الرفيق” الحاضر .. الذي لن يُصبح ماضيًا

.. أنتَ يا أيها الإنسان ، يا آخرَ الهواة وأجملَ العابثين، أيّها الكائن الضئيل والمهذار مبتكر اللغة والأشياء المرّة من عساه يسمعكَ من عساه يفتقد صوتكَ من يلتفت إليكَ في هذه البريّة .! أنتَ .. يا أيّها الإنسانُ الوحيد لم أقصد شبيهكَ فكثيرون اِلتَبسَ عليهم المعنى واتبعوا – خطأ – هذا النداء..

بقلم خالد صالح

ثقيلةٌ هي تلكَ المشاعر التي تجتاحُ القلبَ والروح والجسد عندما تدرك أنّ “الموت” ليس الوجع الحقيقي، بل “الفقد” هو الوجع الأكبر، وقاسية جدّا بعض التعابير عندما تهزّ وجدانك بعنف فلا تملك سوى دمعة تحجّرت في المآقي كقطعة ملتهبة خرجت من بركان متفجّر للتو، ويكون وقعها عليك شديدًا، فتدرك قسوة الكلمة عندما تخرج لتحملَ نيرانًا متأجّجة لا يمكن أن تُطاق ..

طوبى لمن لا يعرف “رفيق الحريري” عن قرب ..رفيق الحريري ” شهيد” غَالبَ التاريخ والزمن فصبغهما باسمه، كان أكبرَ من قدرةِ البعض على الإحاطة بهالته الكبرى، “شهيدٌ” وإن غيّبته أيادي الخبث والغدر فأفعاله ظلّت شاهدةً على “قيامة وطن”، “شهيدٌ” انحنى أمام وطنه قائلًا “ما حدا أكبر من بلده” .

“رفيق الحريري” عندما استودعَ الله وطنه الحبيب وشعبه الطيب بصورة كأنّه يقول: بعد أن يصيرَ قلبي تُرابًا وتجفّ دموعي أو تسقط مثل كلمات عن شجرة حياتي .. وبعد أن تذوبَ حنجرتي ويخفت صراخي وتطحن الأيام ركبتي .. بعد أن يهبّ نسيم تاريخي على مستقبل غيري .. حينها سأنامُ ملء جفوني عن شوارد زمانكم الأسود .. قابضًا على “مقصلة” الوقت، على أيًامٍ من عمر “الوطن” تسرّبت كالماء .. وما عمر الرجل إلا “جدول وهم” من دمع وماء ..

“رفيق الحريري” شهيدٌ يضيق به المكان فلا تتسع له الأمكنة، حضوره “مذهل” لم يستطع الغياب إليه سبيلًا، تفوّق على كل الألقاب وتجاوز الحدود التي حاولوا رسمها لها، بقي “حاضرًا” رغم محاولات التاريخ بأن يجعله “ماضيًا”، جاذبيته مثل كوكب يدور في فلك خاص به، فلا قدرة على تطويقه أو إخضاعه، ولا فرصة لأحد على استنزافه أو استغلاله، كان “الرفيق الحاضر” بحجم وطن وتغييبه بحجم “زلزال” ..

“رفيق الحريري” الذي أدرك بعمق أن من يتعاطى الشأن العام هو في مرمى الانتقادات والتجريح والظلم أحيانًا، وآمن بعمق أيضًا أن نصفَ الناس أعداء لِمَن ولي الحكم هذا إن عدل، لأنه من الرعيل الفريد في قراءة التبدلات، يعرف متى يدخل وكيف يخرج، وفي الحالين يقطف نصرًا، أصله من قماشة نادرة فتحوّل إلى ماردٍ بدا الجميع من حوله أقزاما، مارس لبنانيته بصورة مدهشة، واستعادت معه “بيروت” لقبها الأعظم “أم الشرائع” ..

“رفيق الحريري” كان من صنف الرجال الذين يثيرون فضول الأرض والسماء والماء والهواء والبشر والحجر، رجل معرفته عن قرب تجعلك في “نهم شديد” له، تشعر كـ “الظمآن” كلما نهلت منه تطلب المزيد، رجل بوسعك أن تستند عليه في سرّائك وضرائك، في زمن المحنة ووقت الرخاء، رجلٌ تسلّطت عيناه نحو “الوطن” فإتكأ الوطن عليه، وتسامت به المواقع والمراكز فغدت “فارغة” من بعده حتى وإن شغلها البعض، رجلٌ في زمن قياسي شرّع التاريخ له أبوابه وكتبه “مالئ الدنيا وشاغل الناس” ..

“رفيق الحريري” استحدث “وطنًا صغيرًا” في قلب الوطن الكبير، بنى جدار أمان لشعب افتقد الأمان، وملاذًا له عندما سُدّت في وجهه السبل، الرجل الاستثنائي لكل القضايا من صنف الأوزان الكبرى، يستمع لضمائر الناس وصوته يتسلّل لضمائرهم، حتى في صمته يثير ضجيجًا يصمّ الآذان، لهذا اغتالوه ..طوبى لمن لا يعرف “رفيق الحريري” عن قرب، لأن وجع “الفقد” سيضرب مفاصل عمره، ومرارة الوجع ستلازمه أبد الدهر، إذ ليس من اليُسر أن تُكمل حياتك المعتادة وأنت تشعر بحجم “الخسارة” الفادحة التي منيت بها، لأن فقدانه جعلك “عاريًا” أمام طوفان الألم الذي أحدثه غياب “الأمان” وآكمال حياتك بلا استقرار ..

“رفيق الحريري” الحاضر بيننا أبدا .. يعيش فينا، والتاريخ أصبح عاجزًا من أن يجعله “ماضيًا” ..

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة: