بقلم منير الحافي
نشرت وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الفائت، شريط فيديو للقاضي الأميركي الشهير فرانك كابريو الملقب بـ«القاضي الرحيم» وهو يعلن عن إصابته بسرطان البنكرياس. القاضي المريض طلب من متابعيه عبر منصات التواصل الاجتماعي، الدعاءَ له. وأوضح كابريو أنه احتفل مؤخراً بعيد ميلاده السابع والثمانين. وقال في فيديو نشره عبر فيسبوك: «عيد ميلادي الأخير كان مختلفاً، لأنني كنت أشعر بالتعب، وخضعت للفحص الطبي، ولم يكن تقرير الطبيب جيداً. لقد تم تشخيصي (بأنني مصاب) بسرطان البنكرياس، وهو مرض خبيث». وتحدث عن خضوعه للعلاج تحت إشراف فريق من الأطباء الرائعين، وأنه يدعو الله أن يرشدهم لإيجاد العلاج المناسب له، لأنه مستعد لمحاربة السرطان قدر المستطاع».
في الحقيقة، حزنتُ شخصياً على هذا الرجل الرائع الذي لطالما رأيت فيه الشخصية الغربية الفذة ذات البعد الإنساني، والتي تحترم القانون الأميركي طبعاً، ولكنها في الآخر تحكّم ضميرها، وتطغى الإنسانية بأروع معانيها، على أحكامها القانونية.
القاضي الأميركي، شفاه االله تعالى، لا يميز بين أبيض وأسود، ولا بين وامرأة ورجل، ولا بين أميركي الجنسية وقاطن في الولايات المتحدة. وكذلك، عنده الناس سيان. المسيحي كالمسلم كاليهودي. كلهم سواسية أمام المحكمة، وإنسانيته!
أحببت أن أبدأ مقالي بهذا الرجل الذي سيحفظه التاريخ، ومقارنته بمواقف أميركية غير «رحيمة» تم أخذها في الحرب التي يقودها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر. آخر المواقف الصلفة، كان الاعتراض الأميركي على مشروع وقف النار الإنساني الذي قدّمته الإمارات العربية المتحدة في مجلس الأمن الدولي. فرفع نائب المندوب الأميركي لدى المجلس روبرت وود يده معترضاً، معتبراً أن مشروع القرار «منفصل عن الواقع» ولن يؤدي إلى دفع الأمور قدماً على الأرض. معلناً «أنّنا نؤيّد تجديد الهدن الإنسانيّة لإطلاق الأسرى وإدخال المساعدات إلى غزة». وبررت الولايات المتحدة أن مشروع القرار لا يدين حركة حماس ولا يؤيد «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها».
اللافت في التصويت المذكور أن ١٣ دولة في مجلس الأمن أيدت القرار، منها فرنسا، فيما امتنعت بريطانيا عن التصويت.
الولايات المتحدة نفسها، كانت استخدمت الفيتو الشهر الماضي، ضد مشروع قرار في مجلس الأمن قدمته البرازيل، ويطالب بهدنة إنسانية في القطاع. وحصل القرار حينها على اثني عشر صوتاً مؤيداً، مقابل صوت واحد رافض، وامتناع روسيا والمملكة المتحدة عن التصويت.
برأي عدد من المحللين أن واشنطن ما زالت تسلّف إسرائيل وقتاً لن يتخطى «أسابيع» وليس أشهراً. كان بنيامين نتنياهو حين اجتمع إلى جانب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في زيارته الأخيرة لتل أبيب تحدث عن أشهر لإنهاء حربه على غزة، فسارعه بلينكن: «أسابيع». هذا الأمر أكدته تسريبات صحافية أميركية ذات مصداقية، ومنها صحيفة وول ستريت جورنال، ونقلها موقع الحدث التابع لقناة العربية. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أميركيين أنّ «هناك إدراكاً من الجميع بأنه كلما طال أمد هذه الحرب أصبحت أصعب على الكل».
الولايات المتحدة الأميركية إذاً، لن تعطي إسرائيل وقتاً طويلاً لأسباب كثيرة. من هذه الأسباب، الرعب الشديد من ارتفاع أرقام المدنيين الفلسطينيين. في كل الصور التي ينقلها الإعلام الفلسطيني والعربي والدولي، لا يظهر فيها إلا مدنيون، أطفال، نساء وشيوخ ودمار أينما كان. إذاً، أين المسلحون؟ أين عناصر حماس؟ يثبّت الإعلام أن معظم من يستشهد هم مدنيون.
نقطة مهمة أخرى تؤثر على الواقع الأميركي المحرَج جداً. لم يستطع الكونغرس الأميركي الذي يسيطر عليه الديموقراطيون أن يحول ١٠٦ مليار دولار إلى إسرائيل وأوكرانيا. كان هناك خلاف حتى بين الديموقراطيين أنفسهم بشأن رصد أموال لإسرائيل فيما قوات الاحتلال تستخدم الأموال والأسلحة الأميركية لضرب الأطفال في المدارس ولضرب المرضى في المستشفيات وقصف المنشآت المدنية. من أجل ذلك اضطر الرئيس جو بايدن الذي قال مرة إنه «ليس بالضروري أن يكون يهودياً كي يكون صهيونياً» أن يستخدم صلاحيات الرئيس الاستثنائية لبيع إسرائيل أربعة عشر ألف طلقة دبابة. جاءت هذه الصيغة بطريقة «بيع» لا منحة.
أميركياً أيضاً، دخلت البلاد في أجواء الانتخابات الرئاسية في الخامس من تشرين الثاني ٢٠٢٤. كل قرار تأخذه الإدارة الحالية سيكون مؤثراً في الانتخابات المقبلة. وشبح دونالد ترامب «يخيم» في ذهن الرئيس بايدن وفي عقول الديموقراطيين أينما كانوا. السبت، قبل يومين، نشر استطلاع للرأي أجرته صحيفة وول ستريت جورنال مفاده أن الرئيس الأميركي السابق ترامب يتفوق بالنقاط على الرئيس بايدن.
ووفقاً للاستطلاع فإن ترامب سيحصل على٤٧ في المئة مقابل ٤٣ في المئة لبايدن، في حال تمت الانتخابات بين هذين المرشحين فحسب.
وفي حال شارك مرشحون آخرون في الانتخابات، سيتفوق ترامب بـستّ نقاط إذ سيحصل على ٣٧ في المئة ويحصل بايدن على ٣١ في المئة. وتطرقت الصحيفة إلى من سمّتهم «الديمقراطيين الساخطين» ولكنهم عبّروا عن سخطهم تجاه الاقتصاد وتشاؤمهم من المستقبل الاقتصادي للولايات المتحدة.
لكن الصحيفة رأت أن بايدن لم يعد يحظى بالحماسة لدى العديد من المجموعات التي تصوّت باستمرار للديمقراطيين، وهم الشباب، والناخبون السود واللاتينيون.
وبطبيعة الحال، وبحسب تقارير إعلامية عديدة من واشنطن، فأن العرب والمسلمين الذين فضلوا بايدن على ترامب في الانتخابات السابقة، سيكون لهم رأي مخالف في الانتخابات المقبلة، بسبب موقف بايدن والإدارة الديموقراطية في دعم إسرائيل ضد الفلسطينيين.
إلى متى ستظل أميركا، «إسرائيلية» أكثر من إسرائيل؟ متى تنتهي المدة التي أعطتها لتل أبيب كي توقف الحرب «لأسباب إنسانية»؟ هل ننتظر جرائم أكبر لا يستطيع العقل أن يتقبلها ولا «الديموقراطية» الغربية، خصوصاً في أميركا وأوروبا؟
هل ننتظر ما يسميه نتنياهو «إنجازات» لجيشه على الأرض فيقضي على حماس وأخواتها من المقاومة الفلسطينية في غزة؟ فيكون قد حقق «أهداف» حكومته الحربية المصغرة ومنها تحرير الأسرى باستخدام السلاح التدميري؟ ظهر الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة مساء أمس الأحد بعد غياب، ليؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي لن يستطيع أن يحرّر المحتجزين الإسرائيليين في غزة إلا بالتفاوض وليس بالقوة، مذكراً بأن القوة الإسرائيلية الراجلة التي حاولت إنقاذ جندي لها، قتلته ولم تستطع أخذ جثته بفعل قوة المقاومة.
أيضاً، هل يتغير مزاج خصوم أميركا، فنرى ضغوطاً روسية – صينية على أميركا وإسرائيل كي يوقفا الحرب على غزة؟
كل هذه الأسئلة تترافق مع خوف عربي ودولي – حتى أميركي غير معلن- من «حماقة» قد يقوم بها بنيامين نتنياهو فيقصف جيشه لبنان. عندها ستتوسع الحرب بشكل لن تستطيع إسرائيل ولا أميركا، أن تضبط سيرها. وبالطبع لن يكون لبنان الرسمي في حالة تمكّنه من السيطرة على مسار الأحداث، لأن الكلمة ستكون للميدان، أي لحزب الله. في الأخير، شفا الله «القاضي» الأميركي.